عرض مشاركة واحدة
قديم 04-08-2011, 11:07 AM رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


سلام الباسل غير متواجد حالياً


افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

من أعمال الراحل الكبير
يوسف الخطيب النثرية


الـنــاي والـرعــد - مهداة إلى رجاء النقاش - الحركة الأولى






مع أنني أُدرك جيداً أَن هذه الحياة غير جديرة بأن تعاش، إذا هي خلـت من عنصر الكفـاح المرافق لها باستمرار، وبمزيدٍ من الإرادة الإنسـانية الصلبة، والمتماسكة، إزاء تحدّياتها المختلفة ..

ومع أَنني، الآن، أُقاوم وحش الشتاء من داخل خيمتي هذه في مخيم "العَرُّوب"، وأنا أَعزل اليدين تماماً من أَي سلاح مُضادٍ لوحشيته الطاغية، بينما يصارعه في الوقت نفسه، وعلى الشاكلة ذاتها أَيضاً، أطفالي الثلاثة: خالد، وآمنة، ومحمود ..

إلا أَن شتاء هذه السنة، وحشٌ سافلٌ لا يعرف معنى الشرف، ولست أَدري ما معنى أَن تُجَنِّد الطبيعةُ ضدي كل هذه القوى الناقمة الشرسة دون أَن أَملك في مواجهتها أَية مقدرة على الدفاع، إن لم يكن عن النفس، فعن أطفالي الصغار الجياع هؤلاء ..

ابنتي آمنة تحاول النوم منذ ساعات دون أَن يغمض لها جفن حتى الآن، ولا أَعلم إِن كان ذلك بسبب الريح العاصفة، وميازيب السماء المجنونة فوق خيمتنا، أو لِلسبب الآخر الكبير الذي ينهش قلبها الطفل منذ ليلتين.. وهذه هي الليلة الثالثة ..

أعود فأقول لنفسي، لعل النوم يغلبها بعد لحظات، رغم أن البطانية التي تلتفُّ بها لا تقيها رطوبة الأَرض، ولا سياط الريح الحادة..

لقد كنت، إِيَّايَ، على وشك أَن أَغفو، لو لم توقظني الصغيرة بصرختها المذعورة، المفاجئة:

- الرعد يا أَبي !! .. هبطت علينا السماء !!..
- ليتها تهبط فعلاً ..

ذلك ما قلته لنفسي، على حين ضَمَمتُ الطفلة بقوة إلى صدري لأَِطرد عنها مخاوف الليل والرعد والرياح ..

قبل هذه الليلة كان يمكن أَن يضُمّها صدر آخر .. لكن ذلك الصدر واريناه التراب منذ يومين، وأَصبح أطفالي الثلاثة بدون أُمٍّ إلى الأبد ..

جانبٌ من الليل تحرقه تلك الومضه الخاطفة كنواجذ الشر الملتمعة .. ودَويُّ الرعد يتوعد باقتلاع الخيم المنشورة في العراء الجبليّ، وقد يجرفها عما قليل بالسيول المتدحرجة من أعالي القمم، حاملةً معها الحجارة، وبقايا النبت، والطينَ الأَحمرَ كالدم ..

أتوسـل إليك أيها الاله الرحمن، والرحيم، باسم جميع مخلوقاتك الصغيرة، أن ترفع عنا هذا الغضب الرهيب .. فما هي حاجتنا إِلى المطر، الآن في مخيم "العَرُّوب"، من بعد أن ضاعت منا الأرض، ووعود المواسم، وأغمار الحصاد .. رَبَّنا، دَعِ الطفلَ يَنَم.. والخيمةَ لا تَطِر مع الريح.. والجثمان النائمَ أعلى القمة يرقدْ في سلامه الأَبديّ !!..

محمود، أصغر أطفالي الثلاثة - وأناديه عادة "حُودة" - يُلملم البطانية فوق رأسه ونصفه العلوي، بينما قدماه عاريتان على حصير الخيمة .. وحين مررت بيدي لأُسوِّي الغطاء على كامل جسده، تململ قليلاً، ثم انكفأ على وجهه باكياً ..

- آمَّا .. بِدِّي آمَّا ..
- نم يا حبيبي، وسترجع أُمك مع الحُجّاج قريباً، وتأتيك بهدية من عند قبر الرسول..
- بدّي آمّا..
- ستأتيك بصندوق من التمر، وكوفية من الحرير، وعقال مذهّب، ترتديهما في أيام الأفراح، والليالي الملاح.. فماذا تريد أيضاً؟! ..

كان نشيجه المتقطّع، خلال نغم الليل المُتفجِّر بالرعد، والريح، وزخات المطر، كصوت نايٍ يتناهى إليك وانياً ومتوجّعاً من وراء مئات السفوح .. ثم هَدأ النشيج خلال تلاشٍ طويل، وأغفى الطفل على حلم أن ترجع أمه محمّلة إليه بكل هدايا الحجاز ..

غداً يكبر، وغداً يفهم كل شيء !!..
آه يا حبيبتي الراحلة، بماذا تُحسين الآن في عالمك الآخر؟! ..

أَأَنت مثلي تغالبين النوم حتى في حفرتك المهجورة، الباردة، الموحشة كقلب هذا العالم!!.. ومن كان يَعلم أن بدايةً جميلة، كالتي بدأناها معاً في أحضان بيسان ستنتهي هكذا بلا أَيّ معنى، وبلا أيّ منطق .. بل أيُّ عرَّافٍ كان يستطيع ─ في لحظة لقائنا الأَول ─ أن يتفرَّس في ضمير هذا العالم، وأَن يقرأَ فيه كل هذه الدمامة المرعبة ؟! ..

أتُرى تُؤنسُكِ البَلُّوطة التي تجاورينها الآن في قمة "العرّوب"، أم تعلمين أنها هي الأُخرى وحيدة مثلك يا حبيبتي .. شاخصة على القمة بمفردها .. تُباكي الرياح وحدها، وتتوهج أَوراقها المبلولة، في أشعة البرق، كقلبٍ ماسيٍّ يتألَّق من شدة ما هو مصقولٌ بنار العذاب؟! .. أَتُؤنسك الآن مثلما كانت تؤنسك جدائل النخيل على درب نزهتنا في ضاحية بيسان، وعلى ضفاف نهير "المَشْرَع" بالذات ؟!..

أَمواجُ شعرِك الرخِيّةُ كَغَمْرٍ من سنابل الجليل تلفحني بعطر تَفتُّحِ الربيع في طراوة آذار، وترتمي على كتفيَّ شلاّلَ فرح وحنان .. ثم ها نحن معاً على ضفة "المَشْرَع"، فاتركي قدميك لِمُويجاته الصغيرة، وحدثيني، عنك، وعني، وعن صورة طفل آتٍ تلمحينها في الخيال .. أتسألين ماذا نسمِّيه؟ ..

- خالد ؟ .. على اسم الوالد ؟..
- هو كذلك ..

خالد يتململ أيضاً من شدة البرد ..

لَشَدَّ ما أنا خجل من نفسي، ومنك يا حبيبتي الراحلة، ومن انتظار صغيرنا "حودة" الذي يتوقع أن ترجعي إلينا قريباً، ولستُ أَدري إلى متى ستظلُّ كِذبتي مُنطليَة عليه !! ..
وحتى الكَفَنُ، يا حبيبتي، لم أَجد ما أَشتريه به لأجلك، فلذلك أَبقيتُكِ داخل ثوبِك الوحيد، الجليليّ التطريز، الذي كان كُلَّ ما استطعتِ الهروبَ به من عُشِّنا البيساني الصغير .. وبيديَّ هاتين أرحتُ رأسك النبيل على بطّانيتي التي استبدلتها ببطَّانيتك، لِيتذكر أَحدُنا الآخر.. وحين خِفتُ أن يتسرب الماء إلى جسدك في قمة الجبل، غطَّيتك بكل تلك الأَسمال الكرنفالية العجيبة التي فَرَّقها علينا أولئك المُحسنون، البيضُ، "اللُّوثريُّون"، بديلاً لنا عن كل خيرات فلسطين !!.. لقد كان اختياري لمثواك في أعلى القمة خيراً من دفنك في منحدر السفح، وأنت تدركين يا حبيبتي أنه لم يكن باستطاعتي أن أختار لمقرِّ لجوئك الأخير مكاناً أفضل !!..

- سامحيني، بحق الله يا كوثر ..
- وأنا أيضاً سأسامحك عن نفسي، وعن أطفالنا الثلاثة .. فإن حاجتهم إليك كانت أقوى من الموت !!..
النجدة يا أبي .. اليهودي قتل جدتي !!..
إنه خالد الآن، وقد تعوّد أن يهذي هكذا أثناء النوم، منذ أن أبصر دم جدته يسيل على بوابة منزلنا في بيسان .. بل إن هذه الاستغاثة بذاتها هي أكثر ما يهذي به أثناء النوم، وفي كل مرة أُوقِظُهُ كان يقصُّ عليَّ كابوساً مثيراً، ولابد أنه يعاني الآن من مثل هذا الكابوس .. ولولا خشيتي عليه من الإحساس بلذعة البرد الحادة، إِن أنا أيقظته، لمددتُ يدي إليه، وخلَّصته بهزةٍ في كتفه من كابوسه المرعب .. كم أنا مشفق على أعصابه منذ أن قُدِّر لعينيه الصغيرتين، وهو لم يبلغ الخامسة بعد، إن تريا جثث القتلى، ودماء الجرحى، في أَزقَّة بيسان .. كما قُدِّر لعقله الصغير أن يصطدم بمعنى الخيانة والتشريد .. وبمعنى الزعامة المتبطّلة، والسلاح الفاسد، والإذاعات الكاذبة، والجيوش السبعة التي دخلت البلاد من أجل استنقاذها من براثن غُزاتها اليهود، فأخذت تُسلّم إليهم، في كل يوم، سبعة مواقع بالمجان!!..

تلك كانت أحاديثَنا السالفة .. كوثر، وأنا .. وكان هو يسمعنا بِحَدَقَتي عينيه المُتَّسعتين، أكثر مما يصغي إلينا بأُذنيه .. ترى بماذا يحلم الآن ؟!.. ربما هو يستعيد من عمق الطفولة صورة جدته القتيلة خارج بَوَّابة بيتنا الخشبية .. أو لعله يستعيد صورةً ضبابية لِنُهير "المَشْرَع" الصغير، إذ لم يكن شيءٌ أحبَّ إِليه من أن يستحم في مائه الدافيء، عندما كنت أُردفه على ظهري، واقطع به النهر إلى مسافات قريبة .. قد يخيل إليه الآن أنه يقف وحيداً على حافة النهر الحائلة إلى الشحوب في أضغاث أحلامه، وقد تكدّر ماؤه بالأحمر القاني، واستحالت أسماكه الصغيرة إلى عقارب صفراء ..

لا أدري طبعاً ما الذي يراه في نومه، لكنني، أنا نفسي، رأيت ما يشبه هذه الأضغاث!!..
- جدتي يا أبي .. دمها يسيل على العتبة !! ..
وهنا لم يكن بدٌ من إِيقاظه .. فالإحساس بلذع البرد خير له ألف مرة من الرعب الخانق تحت وطأة هذا الكابوس اللعين ..
- خالد .. خالد ..
وغمغم فيما بين النوم واليقظة:
- نعم يا أبي ..
- وسادتك غير مريحة يا بني ..
- نعم يا أبي ..
- إحرفها قليلاً، ونم ..
- حاضر .. تصبح على خير ..

وكان الأصح أن يخاطبني بتحية الصباح ذاتها .. فإن ساعتي القديمة التي تمكنت أن أحتفظ بها حتى الآن ─ ربما لأن أحداً لم يدفع لي مقابلها حتى نصف دينار─ تشير إلى الرابعة صباحاً .. وهذه هي الليلة الثانية على وفاة كوثر التي يجافيني فيها النوم .. وأظن أن أكثر من ليلة قادمة ستمر بي دون نوم مريح .. إنَّ حِلفاً من الحزن والبرد والإعياء يستعبدني .. كلا، لم أعد أبا خالد الأول، وها هي الأخاديد تنحفر في جبهتي وأسفل مقلتيّ، وأتحسس ذراعي اليمنى بخيبة بالغة، فقد ترهلت عضلاتها، ولعل أكثر ما يدهشني أن تظل قادرة على القيام بمثل هذه الأشغال الشاقة التي استجدت علينا هنا في حياة المخيم.. إن ظهري أيضاً آخذ في التقوّس رغم أن سني لم تتعد الخامسة والثلاثين ..

- ظهري .. أكلتني الحَيَّة !! ..
كانت صرخة خالد هذه المرة مفزعة جداً، حتى لقد ارتعدتْ لها مفاصلي المتجمدة .. ومن شدة هولها قَفَزتْ آمنة "وحودة" على رؤوس أقدامهما، وربما لعلع صداها في الخِيَم المجاورة على الرغم من جَلَبة الليل الشتائي .. لم يكن خالد يعاني من كابوس جديد، ذلك أنه لحظةَ أن أطلق صرخته المذعورة هبّ واقفاً على قدميه، وانقذف نحوي، كاشفاً عن أيسر ظهره حيث لسعته الأفعى، وتناول إصبعي بيده الراعشة، لكي ألامس موضع اللسعة بنفسي، أثناء ما ظل يستنجد بي حتى بعد أن استيقظ من كابوسه اللعين .

- إلحقني يا أبي .. قتلتني الحية !! ..
- لكن الثعابين لا تظهر في الشتاء .. إن سُمّها ينطفيء في هذا البرد اللعين .. إهدأ يا خالد.. كن رجلاً ..

كان كل جسده يرتعش .. وكانت عظام قفصه الصدري التي ضمرت طبقة اللحم فوقها كشجيرةٍ عاريةٍ من لِحائها في مَهبِّ الريح .. وأنا الذي كنت هادئاً فعلاً، ونفيتُ بثقةٍ باردةٍ أي احتمال لظهور الأفاعي في الشتاء، لا أُنكر أن الخوف قد تملّكني من الرأس إلى القدم، حين مررت بأصابعي على الموضع الذي عَلّمه خالد، فجاءني ذلك الملمس اللزج الذي يملأ قميصه وجانباً من ظهره .. ولم يكن سهلاً عليَّ لأَول وهلة أن أَفطن إلى احتمال تسرّب الماء الطيني داخل الخيمة .. كان ما لمستُهُ ماءً، مجرد ماء مختلط بلزوجة الوحل، ولكنه في مثل حرارة الثلج.. ولم أُجرّب لسع الأفاعي في أحد الأيام، لكنني لو كنت مكانَ خالد: نائماً، جائعاً، محطَّماً تحت الكوابيس، وأحسستُ بتلك اللسعة الجليدية في ظهري، فلربما صرخت أنا أيضاً، وبالقدر نفسه من الهلع والرعب !! ..

قمت من فوري إلى الجهة التي كان نائماً فيها، وإذا بمساحة غير قليلة من أرض الخيمة، الترابية، قد تجمع فيها الماء، ومازال يرفدها سيل صغير نَقَبَ الحاجز الطيني الملتفّ حول الخيمة من جهتها الشمالية ..

أدركتُ ذلك بحاسة اللمس .. بيديّ فقط .. فقد ألغى الظلام وظيفة عينيَّ تماماً رغم اقتراب الصباح.. ولقد شعرت بالحاجة إلى كل جهد يمكن أن يتوفر في بقية أعضائي المرهقة، لكي أتدارك إمكانية انجراف الخيمة مع السيول المعربدة المتدحرجة من أعلى السفح ..

درتُ أولاً داخل الخيمة لأِتأكد من سلامة الحاجز الطيني حولها في سائر جهاته الأخرى.. إن الجانب الشرقي أيضاً على وشك أن يتصدّع ويثقبه الماء .. يداي تقولان ذلك .. وما عندنا نقطة كاز واحدة ..

وخاطبت الأطفال:
- خالد .. وأنت يا آمنة .. إمسكا بيد "حودة"، وتَكوَّموا ثلاثتكم هنا ..لُفُّوا أنفسكم جيداً داخل البطانيات ..

فالقسم الجنوبي الذي اخترته لهم كان مرتفعاً بعض الشيء عن مستوى أرض الخيمة .. ولكي أتبيّن المساحة التي غمرها الماء لأنزحه منها، شققت باب الخيمة قليلاً عسى أن يرفدني بنوع من الضوء .. ورغم أنني تلفّعت جيداً ببطانية المرحومة، إلاّ أن لفحة من الصقيع اخترقت جسدي حتى العظم ..

- ماذا تريدين أيتها الطبيعة الناقمة الحاقدة.. أليس من هدفٍ واحدٍ لكل هذا الغضب المجنون .. إلى أين ستنتهين بنا .. كفى .. أقول لك كفى .. كفى، كفى !! ..
وكاد أن يقتلني الخجل من نفسي .. خاصةً أمام الأطفال !! ..
كان الظلام باسطاً جناحيه كخفاشٍ هائل حقود، أو كغولٍ خرافي كبير.. والمطر يسحّ بجنون.. بشراسة .. ولم ألمح خلال الفراغ المظلم سوى بعض الخيام القريبة التي بدت لي كلطخات أشد سواداً، على لوحة كبيرة سوداء، وإنما رُشِقَتْ عليها هكذا، بعصبية وبدون اكتراث..

من يدري كم خيمةً أخرى غمرها الماء الآن .. أو ربما جرفها أيضاً إلى قعر الواد ..
ومن خلال جلبة الريح والمطر، جاءني وقع خطوات تقترب في الظلام، وسرعان ما أدركت بسهولة أنه "الشيخ حابس"، وذلك من سعلته المتقطعة، المقصودة، أشبه ما تكون بالنحنحة .. تلك النحنحة التي تتقدمه عادةً، دالَّةً عليه، معلنةً عن قدومه، شارحة لمسعاه، مميزة لمرتبته الاجتماعية الخاصة .. ولم أخمّن خطأً، فقد كان هو بلحمه ودمه قادماً ليطمئن علينا تحت جهنم هذا الغضب الشتائي المنفلت من عقاله..

- خير يا جيران .. سمعت صراخاً عندكم ..
- بسيطة عم حابس .. نقب الماء حاجز الخيمة علينا ..
- وكيف الأولاد؟ ..
- كل الأمور سليمة والحمد لله ..
- أُسكت .. هبطت أيضاً خيمة الحاج علي الفالوجي من أول الليل، وعالجناها ثلاث ساعات ..
- ذلك بسبب هذه الحواجز الطينية اللعينة .. كيف يمكنها أن تقاوم كل هذه السيول دون حجر ولا اسمنت ؟! ..
- خلّها على الله يا رجل، وهيّا نفعل شيئاً ..

كان الشيخ حابس قد ناهز الستين، وهو ذو لحية بيضاء ليست بالكثة أو المسترسلة كما هي عند من يصفون أنفسهم عادةً بأنهم رجال الدين، ولكنها تنحدر من صدغيه، وتتلاقى في أسفل ذقنه على سوية واحدة، مارَّةً بِعظمَيْ حَنَكَيه السفليين فقط، كإِطار بيضاويّ متّسقٍ حول تقاطيع وجهه الصارمة، وعينيه العربيتين، وأنفه الأَقنى، وشفتيه الحازمتين .. وهو إلى جانب ذلك يختصُّ بقامة باسقة، ممتلئة، يشدّها هيكل قروي صلب، كأن كل الأحداث الأخيرة لم تنتقص منه شيئاً بقدر ما تعاقبت كبراهين مثبتة له ومؤكّدة عليه.. على أن تلك الأمور كلها ليست سوى بعض المزايا الثانوية التي جعلت منه مختاراً لقريته، قرابة ربع قرن من أيام هذا الزمان !! ..
والحق أن الشيخ حابس يتحلّى بِحُبٍ فطري لمساعدة الآخرين، وحلّ مشاكلهم وشِجاراتهم بالحُسنى، وبمخزون ما لديه من العلم بأَحكام العُرف، والعادة، والأُصول .. وكان إذا مر أحدهم بمنزله، في الفالوجة ─ قبل سنة اللجوء ─ يشاهد في كل يوم ما يزيد على ثلاثين حماراً، رُبطت أَرسانها في جذوع اشجار التين والزيتون قُبالة منزله، وقد وفدت عليها جماعات الفلاحين من القرى المجاورة، ليحلّوا في مضافته بعض خصوماتهم التي ما كان ليحلها القانون نفسه، ولا محاكم الأَرض قاطبةً ..

يضاف إلى ذلك طيبةٌ في نفسه، ورصانة غير مُستعلية، وسخاءٌ إلى حد التبذير ..
- أبو خالد خُذ المجرفة واترك لي الفأس .. إتبعني ..
- لكن الثغرة بسيطة، وأرجوك ألا تجهد نفسك عم حابس ..
- اتركنا في المهم الآن ..
- أرجوك عم حابس ..
- وأغلِق بابَ الخيمة جيداً على الأولاد ..

وحين بدأنا العمل خارجاً ─ قبل أن ننـزح الماء المتجمّع داخل الخيمة ─ كانت الساعة ربما الرابعة والنصف ليلاً، أو أكثر أو أقلّ ..

إن ميناء ساعتي الفوسفوري لم يعد متوهجاً كالسابق، لكنه ليس منطفئاً تماماً كما هي عين الشمس خلف غيوم هذا الشتاء الرهيب ..

باهتٌ حقاً ميناءُ ساعتي، لكنني أستطيع أن أستدل بواسطته على الوقت .. إن كل شيء لابد أن يبهت يوماً، باستثناء قلب الإنسان النابض أبداً بمواجهة تحديات الحياة، رغم كل الأحلاف المتضافرة عليه .. وقد خطر لي ─ لا أعلم كيف ولا لماذا ─ إن قلوب البشر جميعاً لابد أن تكون في الأصل كقلب الشيخ حابس، طيبة، محبةً للخير، ناصعةً كقطعة من الشمس، لولا كُلَفٌ تُلطّخها بفعلٍ خارجيٍ غريبٍ تماماً عن جوهرها الأصيل ..

وسعل الشيخ حابس بما يشبه الحشرجة في حلقه، فيما هو يلقي بحجرٍ كبير يعترض به مجرى الماء..

وكنت بدوري أَجرف الطين من حولي لأِدعم به حاجز الخيمة حيث ألقى الشيخ حابس بحجره الكبير، والتقطنا معاً كُومة لا بأس بها من الحجارة المتوسطة، لتعضد الحاجز وتحميه من احتمال التحلل والانهيار .. كانت الحجارة في حرارة الجليد، وشعرت أن أصابعي المُتثلجة المتورّمة لم تعد مني..

- جبال الخليل مرعبة في الشتاء ..
قالها الرجل خلال نوبة ثانية من السعال الأَبَحّ الحاد، فأَيقنت في دخيلتي أن مقاومته قد أخذت تنهار أمام البرد .. ثم عاوَدَتهُ نوبة أخرى من السعال شِبهِ الجريحِ الذي بدا لي غير محتمل هذه المرة، وأخذ يجرد حلقه المحتقن، ويقذف بمحتوياته، بقوة، في سحنة الظلام ..

- العافية يا عم حابس ..
- يعافيك ..
- يكفيك أنت الآن، وسأُنهي البقية وحدي ..
- تحسبني عجوزاً تالفاً .. أليس كذلك؟ ..
- خذ لك ساعة نوم واحدة يا رجل .. هذا غير معقول ..
- مازال علينا أن ننـزح الماء من داخل الخيمة .. هيّا بدون أخذٍ وعطاء !! ..






  رد مع اقتباس
/