۩ أكاديمية الفينيق ۩ - عرض مشاركة واحدة - قراءة انطباعية في قصيدة "الانسانية" /زياد السعودي
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-08-2020, 06:33 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
رائد حسين عيد
عضو أكاديميّة الفينيق
عضو تجمع أدباء الرسالة
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
سوريا

الصورة الرمزية رائد حسين عيد

افتراضي قراءة انطباعية في قصيدة "الانسانية" /زياد السعودي

قراءة انطباعية في قصيدة "الانسانية" /زياد السعودي


النص :الإنسانية

الناص : زياد السعودي



ضاقَتْ عَلى أرْواحِنا الأبْدانُ
مُذْ ماتَ في إنْسانِنا الإنْسانُ

متأنسنين ندين مذبحة هُنا
ونبيحُ أخْرى بتّها السُّلْطانُ

نَسْري خِفافًا للتَّباغُضِ وَ يْحَنا
من رِجْسِنا يَتعَوّذُ الشّيطانُ

صِنْوَ البيادِقِ فوق رُقعةِ حَتفِنا
نكْتظُّ كَيْ "يَتَبَحْبَحَ" الطُّغْيانُ

بِتْنا فُرَادَى مِثْلَ بَعْرٍ ناشِفٍ
وَ تَدوسُنا بِنِعالِها الرّعيانُ

نَسْعى نُشيطنُ مَنْ تطهّرَ واهْتَدى
مُذْ فرّخَتْ في جَوْفِنا الادْرانُ

"بلفور" فاهنأ قد حصدت رِقابَنا
وتَشَتَّتَتْ من وَعْدِكَ العُرْبانُ

"صهيون" دجّن خيلنا "فتماوءت"
وتحكمت في حَتْفِنا العِلْجانُ

لَهْفي عَلى زَمَنٍ أضاعَ أمينَهُ
واخْتالَ في عَرَصاتِهِ الخَوّانُ

ما كانَ صَوْتي سَوْط جَلْد الذّات بَلْ
نَوْحٌ على ما جرَّهُ الإذْعانُ



القراءة : رائد حسين عيد



"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)" الفلق

"في البدء كان الكلمة " يوحنا 1

بدأت مسيرة التوحيد بالكلمة، لما للكلمة من دور كبير في وجود الإنسان، ولما لها من أهمية كبيرة في بناء ذاته وكينونته، وفي مسيرته في إثبات هذا الوجود وهذه الذات وهذه الكينونة.
وكل المنجزات الحضارية الهائلة، التي يدعي الانسان بأنه وصل إليها، ماكانت لتتم، ولا بأي صورة من الصور، بدون الكلمة، التي هي، وبكل تأكيد، مفتاح جميع العلوم، وأساس نشوئها وتطورها.
حتى أن أحدث الأبحاث العلمية توصلت لنتيجة مفادها: بأن اللغة ماهي إلا اللاشعور الذي وصفه سيغموند فرويد (6 مايو 1856—23 سبتمبر، 1939)أو العقل الباطن بهيكليته الكلية.
وهذا الاكتشاف الذي توصل إليه جاك لاكان (1901-1981)؛ أسس لعملية ربط وثيقة بين ماهو سيكولوجي نفسي، وماهو فيزيولوجي عصبي، وبالتالي كانت الحلقة الوثقى، التي ربطت الفلسفة مع العلم، وكانت الشرارة الأولى للثورة الرقمية، وما رافقها من إنجازات ضخمة في جميع العلوم.
الكلمة إذن هي الإنسان، بكل تجلياته، المادية والأخلاقية،
وعندما نقول الكلمة، ينهض الشعر بكامل أبهته في مخيلتنا، كونه الفن الأكثر قربا من النفس، لارتباطه الوثيق بالشعور، وكون الكلمة منجمه الثري والغني بالفلزات الثمينة.
والأمثلة كثيرة، عن شعراء غيروا وجه التاريخ، بالكلمة.
فالشاعر، بطبيعته، يستشعر المتغيرات التي تحيط به، بحساسية مفرطة، فيمسح الغبار عن الثمين والنفيس، ويدل على الهش والتافه، والمتهافت.
ليست مهمة الشاعر إيجاد الإجابات والحلول، بقدر ماهي طرح الأسئلة والمشاكل.
وهو بالتالي كالمجهر تماما، يضخم الأحداث بأسلوبه الأخاذ والبليغ، ويدل على الإيجابيات والسلبيات، ويترك الباقي لذوي الاختصاص.
فالشاعر إذن، هو العقل الباطن الجمعي للمجتمع، ومستودع أحلامه وآلامه.
وفي النص الذي بين يدي اليوم، تتجلى رسالة الشعر بأبهى حللها، رغم مشاعر اليأس والإحباط والحزن الجارفة فيه.
ولكنه اليأس الملهم للأمل، والاحباط الداعي للعمل.
قصيدة اليوم ذيلها الأستاذ زياد السعودي بعنوان الانسانية، وقد قرأتها عن صفحته في الفيس بوك، بلا عنوان، سوى تذييل بصورة انطباعية لشاهدة قبر مكتوب عليها الانسانية، وهو إيحاء رمزي يدل على موت الانسانية في القلوب، كما يتضح معنا من مطلعها المدهش والرائع؛

ضاقَتْ عَلى أرْواحِنا الأبْدانُ

مُذْ ماتَ في إنْسانِنا الإنْسانُ

وقد توزعت القصيدة في مبناها إلى ثلاث كتل شعورية؛
فمقدمة القصيدة! التي اكتفى بها الشاعر ببيت وحيد هو المطلع، كانت كتلة شعورية مندفعة، شديدة الوميض، غزيرة الإيحاء والتصوير.
دائما الشاعر يبحث عن الألفاظ التي يستطيع أن يوكل إليها أكثر من مهمة في ذات الوقت، وقد ووفق شاعرنا هنا متذ النفس الأول للقصيدة :

ضاقَتْ عَلى أرْواحِنا الأبْدانُ

مُذْ ماتَ في إنْسانِنا الإنْسانُ

يبدأ الشاعر مطلع القصيدة، بتناص بديع مع البيت المشهور للإمام الشافعي (150-204هـ / 767-820م) :

ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها

فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ

وفعل ضاقت هنا فتح أبوابا كثيرة أمام القارئ، منها باب الأمل والرجاء المشروط، فالأمل مشروط بالعمل، وإذا استمر الحال على ماهو عليه، فلا أمل ولا رجاء.
والضيق أيضا يحمل معنى ضيق ذات الشاعر، والذات العربية، التي أعتبرها أنثى القصيدة هنا، والضيق هنا أيضا من الهم والألم، ثم الضيق من ضيق الأفق وانسداده أمامها.
لفظ جميل وموحي، قدح شرار الخيال بكافة الاتجاهات، ليؤسس لحكمة، قصدها الشاعر؛ فعندما تموت الانسانية في قلوبنا، تضيق الأرواح عن الأبدان، وتصيبنا حالة الفصام التي أثراها الشاعر في العرض بجملة من المقابلات البديعة، والإيحاءات الذكية والطريفة، والصور الخلابة والمدهشة.
فالعرض الذي استغرق ثلثي النص، هدأ به الموج قليلا، ليعطي فرصة لخيال المتلقي للاستغراق مع الشاعر في تفحص أسباب كل هذا العبث المحيط بناواستشراف معالم الخلل وجس مواطن الألم.

متأنسنين ندين مذبحة هُنا
ونبيحُ أخْرى بتّها السُّلْطانُ

مقابلة رائعة، وصفت حالة الفصام والازدواجية في العقلية العربية الخانعة المستسلمة للسلاطين، فأفعال السلاطين دائما مبررة مهما بلغت دمويتها وتفاهتها وظلمها وجبروتها، ولفظة السلاطين هنا لفظة شاملة، تشمل الحكام والزعامات والقيادات السياسية، والطائفية، وكل من يتحكم برقاب العباد والبلاد، وفق نزواته الشخصية المدمرة للمجتمع، بدون رادع.



نَسْري خِفافًا للتَّباغُضِ وَ يْحَنا
من رِجْسِنا يَتعَوّذُ الشّيطانُ

الإيحاء الضمني للحل واضح بنظر الشاعر بهذا البيت، وهو حتما نقيض التباقض الذي نسري إليه بكامل إرادتنا "المستعبدة أصلا" هذا التباغض الذي يجعلنا دون مرتبة الشيطان، لأنه يهدم بيتنا من الداخل، قبل أن يضرب العدو طلقة واحدة باتجاهه.
والحل هو المحبة والإلفة والتكاتف والتعاضد، للخروج من كل أزماتنا، وهزائمنا.

صِنْوَ البيادِقِ فوق رُقعةِ حَتفِنا
نكْتظُّ كَيْ "يَتَبَحْبَحَ" الطُّغْيانُ

وهذا التباغض، يجعلنا كالبيادق بيد السلاطين واللصوص، الذين يسرقون الأوطان، وقد استخدم لفظة "صنو" كنوع من السخرية والاستهزاء بهذه البيادق، التي تدعي الحرية وهي أبعد مايكون عنها
والصورة الساخرة "نكْتظُّ كَيْ "يَتَبَحْبَحَ" الطُّغْيانُ" جاءت استمرارا للاستهزاء بهذه البيادق، صورة بديعة بها كناية عن الجهل والضعف، وتدني مستوى الفهم، صورة حققت وظيفتها البلاغية بشكل مقتضب، ومدهش.

بِتْنا فُرَادَى مِثْلَ بَعْرٍ ناشِفٍ
وَ تَدوسُنا بِنِعالِها الرّعيانُ

كل هذا نتيجة حتمية للتباغض والتنافر، الذي جعلنا أشتاتا شتى، استعار فيها الشاعر صورة تشتت البعر على الطرقات، وهو روث الماعز والغنم. فحققت الاستعارة وظيفتها البلاغية، بشكل ساخر ولاسع، ولكنه جميل وطريف.

نَسْعى نُشيطنُ مَنْ تطهّرَ واهْتَدى
مُذْ فرّخَتْ في جَوْفِنا الادْرانُ

ولا يخلو المجتمع من الأطهار ولو علا الفجار، ولكن هؤلاء القلة، منبوذون ومشبطنون، فأقوالهم لا تلقى أذنا صاغية، وأفعالهم، مدعاة للسخرية، ومحط الاتهام بشكل دائم.

"بلفور" فاهنأ قد حصدت رِقابَنا
وتَشَتَّتَتْ من وَعْدِكَ العُرْبانُ

كل هذا يجعل من أعدائنا المتربصين بنا، مسرورين، هانئين، لأنهم لا يبذلون جهدا في دمارنا، نحن من ندمر بيتنا من الداخل بأيدينا،

صهيون" دجّن خيلنا "فتماوءت"
وتحكمت في حَتْفِنا العِلْجانُ

وهاهم الصهاينة يروضون الحكام، فيتسابقون على تقديم الطاعة لهم.
وقد استعار الشاعر القطط للدلالة على الرضوخ والاستسلام لهم، وكنى عن الماضي العريق الضائع على بلاط حكام، كان أجدادهم، يبيتون على جيادهم، ويفتحون بلاد الأرض، بفروستهم وأخلاقهم النبيلة.

لَهْفي عَلى زَمَنٍ أضاعَ أمينَهُ
واخْتالَ في عَرَصاتِهِ الخَوّانُ

ما كانَ صَوْتي سَوْط جَلْد الذّات بَلْ
نَوْحٌ على ما جرَّهُ الإذْعانُ

ثم يختم النص ببيتين تنقلب فيهما المعاني لتحمل أضدادها، فاليأس والاحباط الشديدين فيهما، والذي يجزم الشاعر بهما، مشروطان ببقاء الحال واستمرار المعاناة.
وهذا ما أسميته في المقدمة، باليأس الملهم للأمل، والإحباط الداعي للعمل.
أي ما يشبه التهديد لهذا المجتمع، إما أن يصلح حاله، أو يغرق في هذا البحر المترامي الأطراف من الفشل وينحو باتجاه الدمار والزوال القريبين.

نص باذخ، اعتمد على التراكيب البلاغية المقتضبة، والموحية، وزخر بالصور البديعية والمحرضة لذهن المتلقي، والداعمة لفكرة القصيدة، ورسالتها الانسانية.
تماهت به ذات الشاعر بأنثى قصيدته، الذات العربية المقهورة، المنكسرة، المستسلمة لسكاكين السلاطين، والفاسدين،
قصيدة رائعة يقال في مقامها الكثير، ولكني أكتفي بهذه القراءة الانطباعية المتواضعة، وأعتذر عن التقصير الذي لحقني سلفا.
وألف شكر أستاذ زياد السعودي على هذا الإرث الذي تغني به الثقافة العربية.
مع أمنياتي بدوام النجاح والعطاء، وكل عام وأنتم بألف خير.






كذبوا عليك!
  رد مع اقتباس
/