الفينيق غسان كنفاني يليق به الضوء "سلام الباسل" - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: أُمْسِيَّات لُصُوصِيَّة ! (آخر رد :محمد داود العونه)       :: مناصرة من خلايا مشاعري (آخر رد :غلام الله بن صالح)       :: رسالة إلى جيش العدوّ المقهور (آخر رد :نفيسة التريكي)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > 🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘

🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘ موسوعات .. بجهود فينيقية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-01-2010, 09:16 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي الفينيق غسان كنفاني يليق به الضوء "سلام الباسل"

سلام الله

تعودنا أن نضع نصاً
تحت الضوء ومن خلاله نشتغل
هنا ووفاءً لتجربة عظيمة
نستميح روح غسان كنفاني ألف عذر
لنضع الكنفاني تحت الضوء
إذ به يليق الضوء




( تسقط الأجساد..لا الفكرة!)
-----------------------------


سنفرد هذه الزاوية لنعيش مع الحكاية -الأسطورة

الحكاية التي رواها غسان كنفاني
وما برحت كوكباً يتشرد مثلنا في الافق البعيد معلقًا على سماء الغربة صار القنديل الصغير يشع بمصل الحياة , يسري فينا ويرسم لجيل تتجدد النكبه فيه... لانه يقبض على كلمات غسان التي عربشت وتفرعت كدالية أم سعد علي اسطح المخيم , فهي سر الحلم النابض والصاعد معنا نحو ألوان قوس قزح!



من أنت غسان كنفاني :


غسان كنفاني

غسان كنفاني (عكا 1936 - بيروت 8 يوليو 1972) روائي وقاص وصحفي فلسطيني تم اغتياله على يد جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) في 8 يوليو 1972 عندما كان عمره 36 عاما بتفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب بيروت. كتب بشكل أساسي بمواضيع التحرر الفلسطيني، وهو عضو المكتب السياسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. في عام 1948 أجبر وعائلته على النزوح فعاش في سوريا كلاجئ فلسطيني ثم في لبنان حيث حصل على الجنسية اللبنانية. أكمل دراسته الثانوية في دمشق وحصل على شهادة البكالوريا السورية عام 1952. في ذات العام تسجّل في كلية الأدب العربي في جامعة دمشق ولكنه انقطع عن الدراسة في نهاية السنة الثانية، انضم إلى حركة القوميين العرب التي ضمه اليها جورج حبش لدى لقائهما عام 1953. ذهب إلى الكويت حيث عمل في التدريس الابتدائي، ثم انتقل إلى بيروت للعمل في مجلة الحرية (1961) التي كانت تنطق باسم الحركة مسؤولا عن القسم الثقافي فيها، ثم أصبح رئيس تحرير جريدة (المحرر) اللبنانية، وأصدر فيها(ملحق فلسطين) ثم انتقل للعمل في جريدة الأنوار اللبنانية وحين تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 قام بتأسيس مجلة ناطقة باسمها حملت اسم "مجلة الهدف" وترأس غسان تحريرها، كما أصبح ناطقا رسميا باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. تزوج من سيدة دانماركية (آن) ورزق منها ولدان هما فايز وليلى. أصيب مبكرا بمرض السكري. بعد استشهاده، استلم بسام أبو شريف تحرير المجلة.




غسّان كنفاني طفلاً...
------------------------





هو الوحيد بين أشقائه ولد في عكا ، فقد كان من عادة أسرته قضاء فترات الإجازة والأعياد في عكا ، ويروى عن ولادته أن أمه حين جاءها المخاض لم تستطع أن تصل إلى سريرها قبل أن تضع وليدها وكاد الوليد يختنق بسبب ذلك وحدث هذا فى التاسع من نيسان عام 1936.كان من نصيب غسان الالتحاق بمدرسة الفرير بيافا وكنا نحسده لأنه يدرس اللغة الفرنسية زيادة عما ندرسه نحن. ولم تستمر دراسته الابتدائية هذه سوى بضع سنوات. فقد كانت أسرته تعيش في حي المنشية بيافا وهو الحي الملاصق لتل أبيب وقد شهد أولى حوادث الاحتكاك بين العرب واليهود التي بدأت هناك إثر قرار تقسيم فلسطين. لذلك فقد حمل الوالد زوجته وأبناءه وأتي بهم إلي عكا وعاد هو إلى يافا ، أقامت العائلة هناك من تشرين عام 47 الى ان كانت إحدى ليالي أواخر نيسان 1948 حين جري الهجوم الأول على مدينة عكا. بقي المهاجرون خارج عكا على تل الفخار (تل نابليون) وخرج المناضلون يدافعون عن مدينتهم ووقف رجال الأسرة أمام بيت جدنا الواقع في اطراف البلد وكل يحمل ما تيسر له من سلاح وذلك للدفاع عن النساء والاطفال اذا اقتضى الامر.ومما يذكر هنا ان بعض ضباط جيش الإنقاذ كانوا يقفون معنا وكنا نقدم لهم القهوة تباعا علما بان فرقتهم بقيادة أديب الشيشكلي كانت ترابط في أطراف بلدتنا. وكانت تتردد على الأفواه قصص مجازر دير ياسين ويافا وحيفا التي لجأ أهلها إلى عكا وكانت الصور ما تزار ماثلة في الأذهان. في هذا الجو كان غسان يجلس هادئاً كعادته ليستمع ويراقب ما يجري.استمرت الاشتباكات منذ المساء حتى الفجر وفي الصباح كانت معظم الأسر تغادر المدينة وكانت أسرة غسان ممن تيسر لهم المغادرة مع عديد من الأسر في سيارة شحن إلى لبنان فوصلوا إلى صيدا وبعد يومين من الانتظار استأجروا بيتاً قديما في بلدة الغازية قرب صيدا في أقصي البلدة علي سفح الجبل ، استمرت العائلة في ذلك المنزل أربعين يوما في ظروف قاسية إذ أن والدهم لم يحمل معه إلا النذر اليسير من النقود فقد كان أنفقها فى بناء منزل في عكا وآخر في حي العجمي بيافا وهذا البناء لم يكن قد انتهي العمل فيه حين اضطروا للرحيل.من الغازية انتقلوا بالقطار مع آخرين إلى حلب ثم إلى الزبداني ثم الى دمشق حيث استقر بهم المقام في منزل قديم من منازل دمشق وبدأت هناك مرحلة أخرى قاسية من مراحل حياة الأسرة. غسان في طفولته كان يلفت النظر بهدوئه بين جميع إخوته وأقرانه ولكن كنا نكتشف دائماً أنه مشترك فى مشاكلهم ومهيأ لها دون أن يبدو عليه ذلك.





غسان كنفاني يافعاً شاباً...
---------------------------




فى دمشق شارك أسرته حياتها الصعبة ، أبوه المحامي عمل أعمالاً بدائية بسيطة ، أخته عملت بالتدريس ، هو وأخوه صنعوا أكياس الورق ، ثم عمالاً ، ثم قاموا بكتابة الاستدعاءات أمام أبواب المحاكم وفي نفس الوقت الذي كان يتابع فيه دروسه الابتدائية.بعدها تحسنت أحوال الأسرة وافتتح أبوه مكتباً لممارسة المحاماة فأخذ هو الى جانب دراسته يعمل في تصحيح البروفات في بعض الصحف وأحياناً التحرير واشترك فى برنامج فلسطين في الاذاعة السورية وبرنامج الطلبة وكان يكتب بعض الشعر والمسرحيات والمقطوعات الوجدانية.وكانت تشجعه على ذلك وتأخذ بيده شقيقته التى كان لها في هذه الفترة تأثير كبير علي حياته. واثناء دراسته الثانوية برز تفوقه في الادب العربي والرسم وعندما انهى الثانوية عمل في التدريس في مدارس اللاجئين وبالذات فى مدرسة الاليانس بدمشق والتحق بجامعة دمشق لدراسة الادب العربي وأسند اليه آنذاك تنظيم جناح فلسطين في معرض دمشق الدولي وكان معظم ما عرض فيه من جهد غسان الشخصى. وذلك بالاضافة الى معارض الرسم الاخري التى أشرف عليها.وفي هذا الوقت كان قد انخرط في حركة القوميين العرب وأترك الكلام هنا وعن حياته السياسيه لرفاقه ولكن ما أذكره انه كان يضطر أحيانا للبقاء لساعات متأخرة من الليل خارج منزله مما كان يسبب له احراجا مع والده الذي كان يحرص علي انهائه لدروسه الجامعية وأعرف أنه كان يحاول جهده للتوفيق بين عمله وبين اخلاصه ولرغبة والده.غي أواخر عام 1955 التحق للتدريس في المعارف الكويتية وكانت شقيقته قد سبقته في ذلك بسنوات وكذلك شقيقه. وفترة اقامته في الكويت كانت المرحلة التى رافقت اقباله الشديد والذي يبدو غير معقول على القراءة وهى التى شحنت حياته الفكرية بدفقة كبيرة فكان يقرأ بنهم لا يصدق. كان يقول انه لا يذكر يوماً نام فيه دون أن ينهي قراءة كتاب كامل أو ما لا يقل عن ستماية صفحة وكان يقرأ ويستوعب بطريقة مدهشة.وهناك بدأ يحرر في إحدي صحف الكويت ويكتب تعليقا سياسياً بتوقيع "أبو العز" لفت اليه الانظار بشكل كبير خاصة بعد أن كان زار العراق بعد الثورة العراقية عام 58 على عكس ما نشر بأنه عمل بالعراق.في الكويت كتب أيضاً أولي قصصه القصيرة "القميص المسروق" التى نال عليها الجائزة الأولي في مسابقة أدبية. ظهرت عليه بوادر مرض السكرى فى الكويت أيضاً وكانت شقيقته قد أصيبت به من قبل وفي نفس السن المبكرة مما زاده ارتباطاً بها وبالتالي بابنتها الشهيدة لميس نجم التى ولدت في كانون الثاني عام 1955. فأخذ غسان يحضر للميس في كل عام مجموعة من أعماله الأدبية والفنية ويهديها لها وكانت هى شغوفة بخالها محبة له تعتز بهديته السنوية تفاخر بها أمام رفيقاتها ولم يتأخر غسان عن ذلك الا فى السنوات الأخيرة بسبب ضغط عمله.عام 1960 حضر غسان الى بيروت للعمل في مجلة الحرية كما هو معروف.




غسان الزوج
----------------



بيروت كانت المجال الأرحب لعمل غسان وفرصته للقاء بالتيارات الأدبية والفكرية والسياسية.

بدأ عمله في مجلة الحرية ثم أخذ بالإضافة إلى ذلك يكتب مقالاً أسبوعيا لجريدة "المحرر" البيروتية والتي كانت ما تزال تصدر أسبوعية صباح كل اثنين.لفت نشاطه ومقالاته الأنظار إليه كصحفي ومفكر وعامل جاد ونشيط للقضية الفلسطينية فكان مرجعاً لكثير من المهتمين.عام 1961 كان يعقد فى يوغوسلافيا مؤتمر طلابي اشتركت فيه فلسطين وكذلك كان هناك وفد دانمركي.كان بين أعضاء الوفد الدانمركي فتاة كانت متخصصة في تدريس الأطفال.قابلت هذه الفتاة الوفد الفلسطيني ولأول مرة سمعت عن القضية الفلسطينية.

واهتمت الفتاة اثر ذلك بالقضية ورغبت فى الإطلاع عن كثب على المشكلة فشدت رحالها إلى البلاد العربية مرورا بدمشق ثم إلى بيروت حيث أوفدها أحدهم لمقابلة غسان كنفاني كمرجع للقضية وقام غسان بشرح الموضوع للفتاة وزار وإياها المخيمات وكانت هى شديدة التأثر بحماس غسان للقضية وكذلك بالظلم الواقع على هذا الشعب.ولم تمض على ذلك عشرة أيام إلا وكان غسان يطلب يدها للزواج وقام بتعريفها علي عائلته كما قامت هي بالكتابة إلى أهلها.وقد تم زواجهما بتاريخ 19 أكتوبر 1961ورزقا بفايز في 24/8/1962 وبليلي فى 12/11/1966.

بعد أن تزوج غسان انتظمت حياته وخاصة الصحية اذ كثيراً ما كان مرضه يسبب له مضاعفات عديدة لعدم انتظام مواعيد طعامه.

عندما تزوج غسان كان يسكن في شارع الحمراء ثم انتقل إلى حى المزرعة، ثم إلى مار تقلا أربع سنوات حين طلب منه المالك إخلاء شقته قام صهره بشراء شقته الحالية وقدمها له بإيجار معقول.

وفي بيروت أصيب من مضاعفات السكري بالنقرس وهو مرض بالمفاصل يسبب آلاماً مبرحة تقعد المريض أياماً.ولكن كل ذلك لم يستطع يوماً أن يتحكم في نشاطه أو قدرته على العمل فقد كان طاقة لا توصف وكان يستغل كل لحظة من وقته دون كلل.

وبرغم كل انهماكه في عمله وخاصة في الفترة الأخيرة إلا أن حق بيته وأولاده عليه كان مقدساً.كانت ساعات وجوده بين زوجته وأولاده من أسعد لحظات عمره وكان يقضى أيام عطلته (إذا تسنى له ذلك يعمل فى حديقة منزله ويضفي عليها وعلى منزله من ذوق الفنان ما يلفت النظر رغم تواضع قيمة موجوداته.






حين وُلدَ فايز كتب غسان أطالب نفسي بحقك عليّ!
---------------------------------------------------






حين وُلد فائز ... أطالب نفسي بحقك عليّ!


قبل منتصف الليل بساعة ونصف الساعة ولد فائز..
وحين هتفت الممرضة تقول <<مبروك>>، أحسست به، فائز، يقع فوق كتفي.. وللحظات أحسست بشيء يشبه الدوار، وفي صخب المشاعر التي كانت تجتاحني أحسست بأنني مرتبط أكثر بهذه الأرض التي أمشي عليها؛ كأن وقوعه فوق كتفي قد غرسني عميقا في التراب..
وفي الصبح حملته الممرضة وعرضته أمام عينيّ من وراء الزجاج، وبدا لي قطعة لحم حمراء غبية، مغلقة العينين مفتوحة الفم راعشة الكفين.. عينان أمامهما الكثير لترياه.. وفم عليه أن يمضغ طويلاً، وكفان لا يدري أحد أهما للعطاء أم للأخذ أم لكليهما؟
قال لي الطبيب الواقف إلى جانبي:
ما هو شعورك؟
لا شعور لديّ..
أبدا؟
أبدا..
كأنني كنت أقول لنفسي إن في الوقت متسعا لملايين من المشاعر، متسعا للغضب والفرح والمفاجأة والخيبة والسعادة والشقاء والضحك والأسى والحب والكره والانتظار والملل.. ملايين من اللحظات المترعة بغزارة كل ما في هذه الأرض من تناقض..
وفي الغرفة الأخرى كانت أمه ملقاة فوق الفراش. لقد نسيت كل الآلام التي اجترعتها في سبيل أن يولد، نسيت كل الدموع التي أهرقتها في العشرين ساعة الماضية، نسيت كل شيء. كأن الحب الجديد الذي ملأها فجأة، حين قالوا لها إنها وضعت، الحب الغزير الذي لا يمكن أن يحمله إنسان لإنسان إلا الأم لابنها.. كأن هذا الحب قد غسل كل شيء بيد أسطورية..
وبينهما، هو بين يدي الممرضة وراء الزجاج، وهي في سريرها غير قادرة على أن تخطو لتراه معي، كنت أقف أنا مغسولا بالحب والخوف، صافيا كأنني من زجاج: ليس ثمة أي شيء أفكر به أو أهتم له، مجرد رجل يقف مثل ملايين الرجال الذين لا يعرفون حقيقة المستقبل، عاجزا ضئيلا صغيرا أمام المجهول الذي يطوقه بزوجة يريد أن يعطيها ماء عينيه، وولد يريد أن يهبه نبض شرايينه.. واقفا هناك كما لو أن المشاعر الجديرة بأن يحملها أثقل من أن يحملها، فتركها تحوّم حوله كهواء له صوت وله رائحة وله ثقل، تمسه كما تمس الحجر وتغوص في كيانه حتى ليجهل أهو الذي نفثها أم هي التي نفثته.
وحين أنامته الممرضة من جديد خطوت عائدا إلى غرفة زوجتي.. ولكن ما إن سمعت صوت خطواتي حتى عدت إلى عالمي، عالم جديد مطوّق بشيء اسمه حب حقيقي.. حب لا إلزام فيه ولا جزاء.. حب لذاته، بلا تعويض بلا بديل بلا ثمن بلا خوف، حب صاف لم أحس به أبدا من قبل، أبدا أبدا، حب لذلك الطفل الذي ولد مني، بسببي ومن أجلي، وكان ثمنه حبي لها، وحبها لي، ليس غير.. حب لا غاية له ولا هدف، حب مترع بالعطاء، يطوف في صدري حتى أحسه ينسكب في جسدي كما لو أنه ينضح ندى فيبتعث في فرحة العطاء الحقيقي الذي لم يلوث بعد بتعقيدات الحياة، بقانون <<خذ وهات>>، وقانون <<أنت وأنا>> وقانون <<أين ولماذا وكيف>>.. مجرد عطاء محض غير مشوب بأي سؤال أو طلب أو انتظار أو تلكؤ أو تردد.. مثل ماذا؟ مثل لا شيء، مثل ذاته ليس غير.. لو قدّر لنبعة الماء أن تحس، إذن لأحسست ذلك الشعور، العطاء المحض الذي يخلق من جديد كلما شرب عابر من مائها..
وحين نظرت في عيني آني فهمتهما، ولست أدري لماذا أوشكت أن أبكي، بل إنني أحسست بالدموع تطوّف في حلقي مثل الغصة.. وبذلت كل طاقتي لأقول أي شيء. عبثا! لم يكن في لساني إلا ذلك التساؤل الغبي: إذا أعطيتم الطفل حق البكاء حين يولد، أفلا تعطونني هذا الحق حين أولد أنا بولادته؟ أليست كل الأيام التي خلفتها وراء ظهري قد ذابت الآن؟ ألا يحق لي أن أفعل كل الذي أشاء وقد عثرت على قطعة السكر في قاع الكأس الذي اجترعت مرارته كل شبابي؟؟
ولكنك كنت وراء الزجاج يا فائز، بيني وبين لمسك مثل ما بين اليوم واليوم.. نائما هناك في غطائك الأبيض، تعني للمستشفى رقما مربوطا إلى زندك ليميزك من بين عشرات المواليد الذين يشاطرونك الغرفة.. وأما بالنسبة لي فإنك تعني الحياة المزدوجة، حياتك، وحياتنا: أمك وأنا..
أوتدري متى بدأت أفكر بك؟ أقول <<أفكر بك>>، وقد أحسست بك كل الوقت؟
حدث ذلك حين دخلت الممرضة لتأخذ أمك إلى غرفة أخرى:
لماذا؟
لأن هذه الغرفة خاصة بالدرجة الثانية، وأريد أن آخذ زوجتك إلى غرفة الدرجة الأولى..
ولكنها مسجلة في الدرجة الثالثة!؟
الثالثة؟ أوه، عفواً إذاً، لقد حسبت أنها مسجلة في الدرجة الأولى..
عندها فقط جعلوني أحس بأنني فقير.. وبأنني لن أعطيك الحياة التي يستطيع غيري أن يعطيها لابنه.. ولأن هذا كله قد يعني لديك غدا شيئا..
لا تحسب أنني لا أريد أن يعني هذا لديك أي شيء! الأمر لا يتعلق بك، إنه يتعلق بي أنا فقط.. لست أريد أن يشوب عطائي أي ندم..
أنا، يا فايز، لا أطالبك بحق الأبوة في المستقبل.. هذا الحق الذي لا قيمة له إذا طالب المرء به. إنما أطالب نفسي بحقك عليّ، وهذا هو كل شيء عندي الآن.. لقد اكتشفت الآن فقط أن كل شيء سيبدو تافها لو طالبتك بأن تعوّض لي سعادتي بأبوتي لك.. ولكنني لن أغفر لنفسي تقصيري بالمضي في هذه السعادة حتى آخر الشوط، بلا مقابل، بلا تعويض. هذه قضيتي أنا... أتعرف معنى هذا؟
.. وأنا أخرج من غرفة أمك عرفت أيضا معنى الهمّ.. ذلك العبء الذي يثقل أكتاف الرجال لأنه ينبع من الداخل، عميقا من الداخل، والذي يعطي الحياة ذلك الحافز النبيل الذي يفتقر إليه رجل لا يعرف معنى العبء الذي ينبع من الداخل.



غسان كنفاني ووالده:



خرج أبوه من أسرة عادية من أسر عكا وكان الأكبر لعدد غير قليل من الأشقاء ، وبما أن والده لم يكن مقتنعاً بجدوى الدراسات العليا فقد أراد لابنه أن يكون تاجراً أو كاتباً أو متعاطياً لأي مهنة عادية ولكن طموح الابن أبي عليه إلا أن يتابع دراسته العالية فالتحق بمعهد الحقوق بالقدس في ظروف غير عادية. صفر اليدين من النقود وحتى من التشجيع فما كان عليه إلا أن يتكل علي جهده الشخصي لتأمين حياته ودراسته فكان تارة ينسخ المحاضرات لزملائه وتارة يبيع الزيت الذي يرسله له والده ويشترى بدل ذلك بعض الكاز والمأكل ، ويشارك بعض الأسر في مسكنها ، إلى أن تخرج كمحام. وعاد إلي عكا ليتزوج من أسرة ميسورة ومعروفة ويشد رحاله للعمل في مدينة يافا حيث مجال العمل أرحب وليبني مستقبله هناك.وكافح هناك وزوجته إلى جانبه تشد أزره وتشاركه في السراء والضراء ونجح وكان يترافع في قضايا معظمها وطني خاصة أثناء ثورات فلسطين واعتقل مرارا كانت إحداها بإيعاز من الوكالة اليهودية.وكان من عادة هذا الشاب تدوين مذكراته يوماً بيوم وكانت هذه هي أعز ما يحتفظ به من متاع الحياة وينقلها معه حيثما حل أو ارتحل ، وكثيراً ما كان يعود إليها ليقرأ لنا بعضها ونحن نستمتع بالاستماع إلى ذكريات كفاحه ، فقد كان فريدا بين أبناء جيله ، وكان هذا الرجل العصامي ذو الآراء المتميزة مثلاً لنا يحتذى.هذا هو والد غسان كنفاني الذي كان له بدون شك أثر كبير في حياة ثالث أبنائه غسان.










غسان القضية...
------------------




أدب غسان وإنتاجه الأدبي كان متفاعلا دائما مع حياته وحياة الناس وفي كل ما كتب كان يصور واقعا عاشه أو تأثر به."عائد إلى حيفا" وصف فيها رحلة مواطني حيفا في انتقالهم الى عكا وقد وعي ذلك وكان ما يزال طفلاً يجلس ويراقب ويستمع ثم تركزت هذه الأحداث في مخيلته فيما بعد من تواتر الرواية."أرض البرتقال الحزين" تحكى قصة رحلة عائلته من عكا وسكناهم في الغازية. "موت سرير رقم 12" استوحاها من مكوثه بالمستشفي بسبب المرض. "رجال في الشمس" من حياته وحياة الفلسطينيين بالكويت واثر عودته الى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء ، كانت المعاناة ووصفها هي تلك الصورة الظاهرية للأحداث أما في هدفها فقد كانت ترمز وتصور ضياع الفلسطينيين فى تلك الحقبة وتحول قضيتهم إلى قضية لقمة العيش مثبتاً أنهم قد ضلوا الطريق.فى قصته "ما تبقي لكم" التي تعتبر مكملة "لرجال في الشمس" يكتشف البطل طريق القضية ، في أرض فلسطين وكان ذلك تبشيراً بالعمل الفدائي.قصص "أم سعد" وقصصه الأخرى كانت كلها مستوحاة من ناس حقيقيين. في فترة من الفترات كان يعد قصة ودراسة عن ثورة 36 في فلسطين فأخذ يجتمع إلى ناس المخيمات ويستمع إلى ذكرياتهم عن تلك الحقبة والتي سبقتها والتي تلتها وقد أعد هذه الدراسة لكنها لم تنشر (نشرت في مجلة شؤون فلسطينية ) أما القصة فلم يكتب لها أن تكتمل بل اكتمل منها فصول نشرت بعض صورها في كتابه " عن الرجال والبنادق".كانت لغسان عين الفنان النفاذة وحسه الشفاف المرهف فقد كانت في ذهنه في الفترة الأخيرة فكرة مكتملة لقصة رائعة استوحاها من مشاهدته لأحد العمال وهو يكسر الصخر فى كاراج البناية التي يسكنها وكان ينوى تسميتها "الرجل والصخر".







غسان كنفاني الرائد...
---------------------------



تجب وضع دراسة مفصلة عن حياة غسان الادبية والسياسية والصحفية ولكننا في هذه العجالة نكتفي بايراد أمثلة عن ريادته بذكر بعض المواقف في حياته وعتها الذاكرة:كان غسان أول من كتب عن حياة أبناء الخليج المتخلفة ووصف حياتهم وصفاً دقيقا مذهلا وذلك في قصته "موت سرير رقم 12" ولا أستطيع أن اؤكد اذا كان سواه قد كتب عن ذلك من بعده.فى أوائل ثورة 58 بالعراق ايام حكم عبد الكريم قاسم زار غسان العراق ورأى بحسه الصادق انحراف النظام فعاد وكتب عن ذلك بتوقيع "أبو العز" مهاجما العراق فقامت قيامة الأنظمة المتحررة ضده الى أن ظهر لهم انحراف الحكم فعلا فكانوا أول من هنأوه على ذلك مسجلين سبقه في كتاب خاص بذلك.بعد أن استلم رئاسة تحرير جريدة "المحرر" اليومية استحدث صفحة للتعليقات السياسية الجادة وكانت على ما أذكر الصفحة الخامسة وكان يحررها هو وآخرون. ومنذ سنة تقريبا استحدثت احدى كبريات الصحف اليومية فى بيروت صفحة مماثلة وكتب من كتب وأحدهم استاذ صحافة فى الجامعة الاميركية كتبوا في تقريظ هذه الصفحة وساءنى أن يجهل حتى المختصون بالصحافة ان غسان قام بهذه التجربة منذ سنوات .لا أحد يجهل أن غسان كنفاني هو أول من كتب عن شعراء المقاومة ونشر لهم وتحدث عن أشعارهم وعن أزجالهم الشعبية فى الفترات الاولى لتعريف العالم العربي على شعر المقامة ، لم تخل مقالة كتبت عنهم من معلومات كتبها غسان وأصبحت محاضته عنهم ومن ثم كتابه عن "شعراء الارض المحتلة" مرجعا مقررا فى عدد من الجامعات وكذلك مرجعا للدارسين.الدراسة الوحيدة الجادة عن الادب الصهيونى كانت لغسان ونشرتها مؤسسة الأبحاث بعنوان "في الأدب الصهيوني". أشهر الصحافيين العرب يكتب الآن عن حالة اللا سلم واللا حرب ولو عدنا قليلا الى الاشهر التى تلت حرب حزيران 67 وتابعنا تعليقات غسان السياسية فى تلك الفترة لوجدناه يتحدث عن حالة اللا سلم واللا حرب اى قبل سنوات من الاكتشاف الاخير الذى تحدثت عنه الصحافة العربية والاجنبية.اننا نحتاج الى وقت طويل قبل أن نستوعب الطاقات والمواهب التى كان يتمتع بها غسان كنفاني. هل نتحدث عن صداقاته ونقول أنه لم يكن له عدو شخصى ولا في أى وقت واي ظرف أم نتحدث عن تواضعه وهو الرائد الذى لم يكن يهمه سوى الاخلاص لعمله وقضيته أم نتحدث عن تضحيته وعفة يده وهو الذى عرضت عليه الالوف والملايين ورفضها بينما كان يستدين العشرة ليرات من زملائه. ماذا نقول وقد خسرناه ونحن أشد ما نكون فى حاجة اليه ، الى ايمانه واخلاصه واستمراره على مدى سنوات في الوقت الذى تساقط سواه كأوراق الخريف يأساً وقنوطا وقصر نفس.كان غسان شعباً في رجل ، كان قضية ، كان وطناً ، ولا يمكن أن نستعيده الا إذا استعدنا الوطن!





غسان كنفاني ومؤلفاته..
---------------------------




الروايات:
- رجال فى الشمس
- ما تبقى لكم
- عائد إلى حيفا
- ام سعد
- الشئ الاخر : من قتل ليلى الحايك ؟
- العاشق ؛ برقوق نيسان ؛ الاعمى والاطرش

--------------------
القصص:
- القميص المسروق وقصص اخرى
- عالم ليس لنا
- عن الرجال والبنادق
- موت سرير رقم 12
- ارض البرتقال الحزين
-------------------------------

المسرحيات:
- الباب
- القبعة والنبى
- جسر الى الابد

-----------------------

كتابات ساخرة:
مقالات فارس فارس

-----------------------------------
للأطفال:
أطفال غسان كنفاني والقنديل الصغير

----------------------
مراسلات:
رسائل غسان كنفاني الى غادة السمان

-----------------------
دراسات أدبية:
- الادب الفلسطينى المقاوم تحت الاحتلال 48 - 68
- أدب المقاومة في فلسطين المحتلة
- فى الادب الصهيونى
- المقاومة و معضلاتها
- ثورة 36 - 39 في فلسطين

--------------------------
بالإضافة إلى العديد من الكتابات الأدبية (الوجدانية) و السياسية و الفكرية و التاريخية و النقدية و اللوحات الفنية لم تنشر بعد مثل: اللوتس الأحمر الميت( رواية), ثم أشرقت آسيا( كتاب عن رحلة إلى الصين), صيف و دخان (ترجمة) لتنسي ويليامز و تقارير سياسية صادرة عن الجبهة الشعبية و غيرها مما نشر في الصحافة التي عمل بها في الكويت و بيروت و دمشق.




مؤلفات عنه وعن أدبه
--------------------------

1. غسان كنفاني إنسانا وأديبا ومناضلا
د. إحسان عباس
2. غسان كنفاني : تكامل الشخصية واختزانها: دراسة نقدية في جوانب من أدبه ورسائله
مصطفى الولى
3. غسان كنفاني وعبدالرحمن منيف الرؤية المستقبلية فى الرواية
كريم مهدى المسعودى
4. النموذج الإنساني في أدب غسان كنفاني
نجمة خليل حبيب
5. غسان كنفاني الكلمة والجرح
حيدر توفيق بيضون
6. الطريق الى خيمة الاخرى : دراسة فى اعمال غسان كنفاني
د. رضوى عاشور
7. الرمز في أدب غسان كنفاني
خالدة شيخ خليل
8. رسوم لأرض البرتقال
ضياء العزاوي
9. غسان كنفاني - شهادات وصور
الحكم النعيمي
10. ما لم يعرف من أدب غسان كنفاني
سليمان الشيخ
11. هكذا تنتهى القصص هكذا
انطباعات شخصية عن حياة غسان كنفاني وباسل الكبيسى
فضل النقيب
12. غسان كنفاني صفحات كانت مطوية
عدنان كنفاني
13. مع غسان كنفاني وجهوده القصصية الروائية
د. عبدالرحمن ياغى
14. ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية
فاروق وادي
15. وعد الغد دراسة في ادب غسان الكنفاني
د. فيحاء عبدالهادى
16. الجمال الحزين و العطاء المتوهج
سهيل كيوان
17. جماليات الشخصية الفلسطينية لدى غسان كنفاني
ماجدة حمود
18. غسان كنفاني: البنية الروائية لمسار الشعب الفلسطيني من البطل المنفي الى البطل الثوري
د. أفنان القاسم
19.غسان كنفاني رعشة المأساة : دراسة
يوسف سامى اليوسف
20. الخطاب الروائي عند غسان كنفاني
منار حسن فتح الباب



فلم ( المخدوعون ) "رجال في الشمس"
---------------------


لقد كانت هذه الرواية من أكثر الروايات التي نالت شهرة من أعمال غسان كنفاني
وقد تم انتاجها سينمائيا في فلم يحمل اسم (المخدوعون) ونال الفلم ايضا سمعة طيبة
"رجال في الشمس" هي الرواية الأولى للكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، والرواية تصف تأثيرات نكبة فلسطين سنة 1948 على الشعب الفلسطيني من خلال أربعة نماذج من أجيال مختلفة، وهي تقدم الفلسطيني في صيغة اللاجئ –كما يرى الناقد فاروق عبد القادر- وهي الصيغة التي يطورها غسان كنفاني في روايتيه التاليتين "ما تبقى لكم" حيث يقدم الفلسطيني/الفدائي، و"عائد إلى حيفا" حيث يقدم الفلسطيني/الثائر، متمشيا بذلك مع تطور القضية الفلسطينية ذاتها.
الفيلم أنتج سنة 1973 من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بدمشق، وهو بطولة عبد الرحمن القرشي وبسام لطفي وصالح خلقي، وتصوير بهجت حيدر وموسيقى صلحي الوادي. كما حصل الفيلم على الجائزة الذهبية بمهرجان قرطاج للأفلام العربية والأفريقية سنة 1973، واختير كواحد من أهم مائة فيلم سياسي في تاريخ السينما العالمية.




من أقوال غسان كنفاني...
-------------------------------




كان غسّان كنفاني مثقفاً
روائياَ وقاصاً وصحافياً ومسرحياً وتشكيلياً ومناضلاً سخّر حياته لقضيته
فكانت كلماته شعارات صارخة راسخة في عمق الوجدان الإنساني
ومنها :

لا تمت قبل أن تكون ندا!

إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت..إنها قضية الباقين

إن الموت السلبي للمقهورين و المظلومين مجرد انتحار و هروب و خيبة و فشل

الثورة وحدها هي المؤهلة لاستقطاب الموت..الثورة وحدها هي التي توجه الموت..و تستخدمه لتشق سبل الحياة

لنزرعهم شهدائنا في رحم هذا التراب المثخن بالنزيف..فدائما يوجد في الأرض متسعا لشهيد آخر

إن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق و تافه لغياب السلاح..و إنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه

لك شيء في هذا العالم..فقم!

أنا أحكي عن الحرية التي لا مقابل لها..الحرية التي هي نفسها المقابل

لا أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي..أو أقتلع من السماء جنتها..أو أموت أو نموت معا

هذا العالم يسحق العدل بحقارة كل يوم!

إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية

إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية..فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغير القضية

الغزلان تحب أن تموت عند أهلها..الصقور لا يهمها أين تموت

الأشباح ماتوا ..قتلتهم الفيزياء..و ذوبتهم الكيمياء..و أرعبتهم العقول

جاعوا, وأخذت السماء تزخ, حيث يسقى فولاذ الرشاشات تضحى

له رائحة الخبز

ليس المهم أن يموت أحدنا..المهم أن تستمروا

هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين..هي تخلف و فلسطين تأخذ

في صفاء رؤيا الجماهير تكون الثورة جزءا لا ينفصم عن الخبز و الماء و أكف الكدح و نبض القلب

إن ضرب السجين هو تعبير مغرور عن الخوف

إن الخيانة في حد ذاتها ميتة حقيرة

سيظل مغروسا هنا ينبض وحده في العراء..إلى أن يموت واقفا

و أورثني يقيني بوحدتي المطلقة مزيدا من رغبتي في الدفاع عن حياتي دفاعا وحشيا

أيمكن أن يكون القدر مرتبا على هذه الصورة الرهيبة..يا إلهي..أيمكن؟!

إن حياتي و موتك يلتحمان بصورة لا تستطيع أنت و لا أستطيع أنا فكهما..ورغم ذلك فلا يعرف أحد كيف يجري الحساب ها هنا

لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟


فإذا بالجميع يصرخوا دفعة واحدة" أية حياة هذه..الموت أفضل منها" و لأن الناس عادة لا يحبون الموت كثيرا..فلابد أن يفكروا بأمر آخر

إن الانتصار هو أن تتوقع كل شيء..و ألا تجعل عدوك يتوقع

إنها الثورة! هكذا يقولون جميعا..و أنت لا تستطيع أن تعرف معنى ذلك إلا إذا كنت تعلق على كتفك بندقية تستطيع أن تطلق..فإلى متى تنتظر؟!

بالدم نكتب لفلسطين

و عندما وصلنا صيدا في العصر صرنا لاجئين





مقتطفات من كتابات غسان..
--------------------------------




إن موجة النقد الموجهة الآن، وأحياناً بلا رحمة، إلى حركة المقاومة ينبغي ألا تخيفنا. فالثورات تشبه أحياناً الإنسان نفسه: إنه حين يكون في القمة يحاط بالدفء والدعم والتصفيق ويبدو مقدساً وبعيداً عن اللمس؛ وأما حين يتراجع إلى السفح فإنه يعاني من برودة الوحدة المؤلمة ويستمتع الآخرون بنقده وإيذائه، بل قد يرون الصواب فيه خطأ!
الهدف


--------------------------------------------------------------------------------


<<كنت أقول لنفسي: ما هي فلسطين بالنسبة لخالد؟ إنه لا يعرف المزهرية ولا الصورة، ولا السلم، ولا الحليصة، ولا خلدون (أخاه الذي صار في الجيش الإسرائيلي). ومع ذلك، فهي بالنسبة له جديرة بأن يحمل المرء السلاح ويموت في سبيلها. وبالنسبة لنا، أنا وأنتِ، فلسطين مجرد تفتيش عن شيء تحت غبار الذاكرة. وانظري ماذا وجدنا تحت ذلك الغبار.. غبارا جديدا أيضاً!>>.


سعيد يخاطب زوجته
في " عائد الى حيفا"

--------------------------------------------------------------------------------


غني عن القول أن العامل الأهم في كسب التأييد لقضية ثورة معينة هو بالدرجة الأولى إنجازاتها في ميدان القتال وصلابتها النضالية.
الهدف 27/2/1971


--------------------------------------------------------------------------------


<<لقد رأيته ينزف حياته بعيني. كانوا يحملونه ملفوفاً بمعطفين ملوثين فوق الدرج. وأخذت ذراعه المتدلية بين الرجال، عارية صفراء، تهتز جيئة وذهابا كأنها تدعوني إلى اللحاق به. فارتقيت الدرج وأنا أنشج، بين خطوات الرجال الثقيلة الثابتة>>.
حامد، ما تبقى لكم


--------------------------------------------------------------------------------


<<الحبوس أنواع يا ابن العم! أنواع! المخيم حبس، وبيتك حبس، والجريدة حبس، والراديو حبس، والباص والشارع وعيون الناس.. أعمارنا حبس، والعشرون سنة الماضية حبس، والمختار حبس. تتكلم أنت عن الحبوس؟ طول عمرك محبوس... لماذا تعتقدون أن سعد هو المحبوس؟ محبوس لأنه لم يوقع ورقة تقول إنه <<آدمي>>؟ آدمي؟ من منكم آدمي؟ كلكم وقعتم هذه الأوراق بطريقة أو بأخرى، ومع ذلك فأنتم محبوسون>>!
أم سعد


--------------------------------------------------------------------------------


<< إن هذه الكيلومترات المئة والخمسين (في الصحراء الفاصلة بين العراق والكويت) أشبّهها بيني وبين نفسي بالصراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار. فمن سقط عن الصراط ذهب إلى النار، ومن اجتازه وصل إلى الجنة. أما الملائكة هنا فهم رجال الحدود>>!
أبو الخيزران، رجال في الشمس

--------------------------------------------------------------------------------


<<ومتى تكفّون عن اعتبار ضعف الآخرين وأخطائهم مجيّرة لحساب ميزاتكم؟... مرة تقولون إن أخطاءنا تبرّر أخطاءكم، ومرة تقولون إن الظلم لا يصحح بظلم آخر. تستخدمون المنطق الأول لتبرير وجودكم هنا، وتستخدمون المنطق الثاني لتتجنبوا العقاب الذي تستحقونه..!>>.
سعيد س. مخاطباً يهوداً احتلوا بيته، عائد إلى حيفا


--------------------------------------------------------------------------------


إن الزوجة هي قيمة اجتماعية رائعة. ولكن، لكي تظل أنثى فإنه يتوجب علينا أن نعرفها أقل. وكي نجعلها تتوقد أكثر يجب أن نحوّلها كلما مضت للفراش إلى امرأة أخرى، امرأة ثانية.
صالح، في من قتل ليلى الحايك؟


-


<<أريد أن أعيش حتى أراها (أي فلسطين). لا أريد أن أموت هنا، في الوحل ووسخ المطابخ... أنت تعرف كيف تكتب الأشياء. أنا لم أذهب إلى مدرسة في عمري، ولكننا نحس مثل بعضنا. يا ربي! ماذا أقول؟ أمس في الليل فكّرت بذلك جيداً، ووجدت الكلمات المناسبة، وفي الصباح نسيتها! طيب! أنت تكتب رأيك. أنا لا أعرف الكتابة. ولكني أرسلت ابني إلى هناك (مع الفدائيين). قلت بذلك ما تقوله أنت. أليس كذلك؟>>.
أم سعد





<<سأظل أنتقد: في حدود ما يستطيع صبري أن يكتب والورق أن يحتمل وعبر هذا الانتقاد سأزيد في ولائي للقضية التي نعيش جميعنا من أجلها وسنموت وهي تنبض لما تزل فينا>>.
ملحق الأنوار 14/7/1968



<<أنا الذي أعرف أن الكلمة عندنا وسيلة، وأنها إن لم تستطع أن تتحول إلى حجر في يد الأعزل، إلى جواد تحت رجل طريد، إلى رمح في يد فارس، إلى ضوء في عيني أعمى، فلتسقط إلى النسيان والغبار والصدأ>>.
ملحق الأنوار 21/1/1968




<<الحجاب القديم صنعه لي شيخ عتيق منذ كنا في فلسطين. وذات يوم قلت لنفسي: <<ذلك رجل دجال بلا شك>>. حجاب؟ إنني أعلقه منذ كان عمري عشر سنين؛ ظللنا فقراء، وظللنا نهترئ بالشغل، وتشردنا، وعشنا هنا (في المخيم) عشرين سنة. حجاب؟ هناك أناس ينتفعون بالضحك على لحى الناس! ذلك الصباح قلت لنفسي: إذا مع الحجاب هيك، فكيف بدونه؟ أيمكن أن يكون هنالك ما هو أسوأ؟>>.
أم سعد




<< يزوّجه ندى! من الذي قال له إنه يريد أن يتزوج ندى؟ لمجرد أن أباه قرأ معه الفاتحة حين وُلد هو ووُلدت هي في يوم واحد؟ إن عمه يعتبر ذلك قدراً، بل انه رفض مئة خاطب قدموا ليتزوجوا ابنته، وقال لهم إنها مخطوبة!>>.
أسعد، رجال في الشمس



من رسائل غسان لغادة السمان
---------------------------------

رسائل غسان كنفاني التي تنشرها غادة السمان. هل ستكون فاتحة عهد جديد في كشف أوراق العرب الراحلين وأسرارهم. وهل ستكون هنالك نساء أخريات في جرأة غادة السمان؟




محاولة إهداء
إلى الذين لم يولدوا بعدهذه السطور التي أهداني إياها ذات يوم وطنيّ مبدع لم يكن قلبه مضخة صدئة، أهديها بدوري إلى الذين قلوبهم ليست مضخات صدئة، وإلى الذين سيولدون بعد أن يموت أبطال هذه الرسائلولكن سيظل يحزنهم مثلي أن روبرت ماكسويل دفن في القدس في هذا الزمان الرديء، بدلا من أن يدفن غسان كنفاني في يافا

رسالة غير مؤرخة-لا أذكر التاريخ!....لعلها أول رسالة سطرها لي
غادة..
أعرف أن الكثيرين كتبوا إليك، وأعرف أن الكلمات المكتوبة تخفي عادة حقيقة الأشياء خصوصا إذا كانت تُعاش..وتُحس وتُنزف على الصورة الكثيفة النادرة التي عشناها في الأسبوعين الماضيين...ورغم ذلك، فحين أمسكت هذه الورقة لأكتب كنت أعرف أن شيئا واحدا فقط أستطيع أن أقوله وأنا أثق من صدقه وعمقه وكثافته وربما ملاصقته التي يخيل إلي الآن أنها كانت شيئا محتوما، وستظل كالأقدار التي صنعتنا: إنني أحبك.
الآن أحسها عميقة أكثر من أي وقت مضى، وقبل لحظة واحدة فقط مررت بأقسى ما يمكن لرجل مثلي أن يمر فيه ، وبدت لي تعاساتي كلها مجرد معبر مزيف لهذه التعاسة التي ذقتها في لحظة كبريق النصل في اللحم الكفيف...
الآن أحسها ، هذه الكلمة التي وسخوها ، كما قلت لي والتي شعرت بأن علي أن أبذل كل ما في طاقة الرجل أن يبذل كي لا أوسخها بدوري.
إنني أحبك: أحسها الآن والألم الذي تكرهينه – ليس أقل ولا أكثر مما أمقته أنا – ينخر كل عظامي ويزحف في مفاصلي مثل دبيب الموت.
أحسها الآن والشمس تشرق وراء التلة الجرداء مقابل الستارة التي تقطع أفق شرفتك إلى شرائح متطاولة...
أحسها وأنا أتذكر أنني لم أنم أيضا ليلة أمس، وأنني فوجئت وأنا أنتظر الشروق على شرفة بيتي أنني – أنا الذي قاومت الدموع ذات يوم وزجرتها حين كنت أُجلد – أبكي بحرقة.بمرارة لم أعرفها حتى أيام الجوع الحقيقي ، بملوحة البحار كلها وبغربة كل الموتى الذين لا يستطيعون فعل أيما شيء ...وتساءلت: أكان نشيجاً هذا الذي أسمعه أم سلخ السياط وهي تهوي من الداخل؟
لا..أنت تعرفين أنني رجل لا أنسى وأنا أعْرَفُ منك بالجحيم الذي يطوق حياتي من كل جانب ، وبالجنة التي لا أستطيع أن أكرهها ، وبالحريق الذي يشتعل في عروقي ، وبالصخرة التي كتب علي ّ أن أجرها وتجرني إلى حيث لا يدري أحد ...وأنا أعرف منك أيضاً بأنها حياتي أنا ، وأنها تنسرب من بين أصابعي أنا ، وبأن حبك يستحق أن يعيش الإنسان له ، وهو جزيرة لا يستطيع المنفيّ في موج المحيط الشاسع أن يمر بها دون أن....
ورغم ذلك فأنا أعرف منك أيضاً بأنني أحبك إلى حد أستطيع أن أغيب فيه ، بالصورة التي تشائين ، إذا كنت تعتقدين أن هذا الغياب سيجعلك أكثر سعادة ، وبأنه سيغير شيئاً من حقيقة الأشياء.
أهذا ما أردت أن أقوله لك حين أمسكت الورقة؟ لست أدري..ولكن صدقيني يا غادة أنني تعذبت خلال الأيام الماضية عذاباً أشك في أن أحدا يستطيع احتماله ، كنت أجلد من الخارج ومن الداخل دونما رحمة وبدت لي حياتي كلها تافهة ، واستعجالاً لا مبرر له، وأن الله إنما وضعني بالمصادفة في المكان الخطأ لأنه فشل في أن يجعل عذابه الطويل الممض وغير العادل لهذا الجسد، الذي أحتقر فيه قدرته غير البشرية على الصلابة، ينحني ويموت...
إن قصتنا لا تكتب ، وسأحتقر نفسي لو حاولت ذات يوم أن أفعل ، لقد كان شهراً كالإعصار الذي لا يُفهم ، كالمطر، كالنار، كالأرض المحروثة التي أعبدها إلى حد الجنون وكنت فخورا بك إلى حد لمت نفسي ذات ليلة حين قلت بيني وبين ذاتي أنك درعي في وجه الناس والأشياء وضعفي ، وكنت أعرف في أعماقي أنني لا أستحقك ليس لأنني لا أستطيع أن أعطيك حبات عينيّ ولكن لأنني لن أستطيع الاحتفاظ بك إلى الأبد .
وكان هذا فقط ما يعذبني ...إنني أعرفك إنسانة رائعة ، وذات عقل لا يصدق وبوسعك أن تعرفي ما أقصد: لا يا غادة لم تكن الغيرة من الآخرين.....كنت أحسك أكبر منهم بما لا يقاس ، و لم أكن أخشى منهم أن يأخذوا منك قلامة ظفرك .
لا يا غادة ....لم يكن إلا ذلك الشعور الكئيب الذي لم يكن ليغادرني ، مثل ذبابة أطبق عليها صدري ، بأنك لا محالة ستقولين ذات يوم ما قلتِه هذه الليلة.
إن الشروق يذهلني ، رغم الستارة التي تحوله إلى شرائح وتذكرني بألوف الحواجز التي تجعل من المستقبل - أمامي – مجرد شرائح....وأشعر بصفاء لا مثيل له مثل صفاء النهاية ورغم ذلك فأنا أريد أن أظل معك ، لا أريد أن تغيب عني عيناك اللتان أعطتاني ما عجز كل شيء انتزعته في هذا العالم من إعطائي . ببساطة لأني أحبك. وأحبك كثيراً يا غادة، وسيُدَمرُ الكثير مني إن أفقدك، وأنا أعرف أن غبار الأيام سيترسب على الجرح ولكنني أعرف بنفس المقدار أنه سيكون مثل جروح جسدي: تلتهب كلما هبت عليها الريح .
أنا لا أريد منك شيئاً وحين تتحدثين عن توزيع الانتصارات يتبادر إلى ذهني أن كل انتصارات العالم إنما وزِعَت من فوق جثث رجال ماتوا في سبيلها
أنا لا أريد منك شيئاً ، ولا أريد- بنفس المقدار- أبداً أبداً أن أفقدك.
إن المسافة التي ستسافرينها لن تحجبك عني ، لقد بنينا أشياء كثيرة معا ً لا يمكن ، بعد، أن تغيّبها المسافات ولا أن تهدمها القطيعة لأنها بنيت على أساس من الصدق لا يتطرق إليه التزعزع.
ولا أريد أن أفقد ( الناس) الذين لا يستحقون أن يكونوا وقود هذا الصدام المروّع مع الحقائق التي نعيشها...ولكن إذا كان هذا ما تريدينه فقولي لي أن أغيب أنا . ظلي هنا أنت فأنا الذي تعودت أن أحمل حقيبتي الصغيرة وأمضي ...
ولكنني هذه المرة سأمضي وأنا أعرف أنني أحبك، وسأظل أنزف كلما هبت الريح على الأشياء العزيزة التي بنيناها معاً..
غسان



غسان كنفاني ينقش فكره ويقول: عن الأقلام أكتب .. لا عن الكتب!
--------------------------------------------------------------------


أضمر حقداً شريراً على رجلين لا أعرفهما، ولكنهما يمثلان بالنسبة لي أبشع أنواع اللصوصية: هذه اليد المزودة بأظافر النهب تحت قفاز من حرير التهذيب، ووراء اليد والقفاز توجد ذراع انعدام المسؤولية، وهذه الذراع هي <<الخيانة>> بعينها!
الأول رجل يلبس قميصا مخططا ويضع نظارة وشعره ميال الى الحمرة (من يجده يتصل بالمخفر وله مكافأة قيمة)، التقيته في مطار بيروت، وكنا على وشك أن نسافر كل الى جهة، حين طلب بتهذيب لا مثيل له أن أعيره قلمي ليملأ به بطاقة المغادرة.
وأعطيته قلمي، بالطبع، شأن أي رجل متحضر يلتقي رجلا متحضرا في مطار ما، فلطشه.
أما الثاني فرجل يلبس قميصا أبيض، التقيته في مكتب البرقيات في بيروت عند منتصف الليل، وكنت ذاهبا لأبعث برقية، فطلب مني بتهذيب لافت للنظر أن أعيره قلمي ليكتب برقية.
وأعرته قلمي بعد محاضرة موجزة ألقيتها عليه، ملخصها أنني أضعت قلما قبل فترة عندما استعاره مني رجل في المطار (في الحقيقة قلت له إنني أضعت عشرة أقلام لأجعل القضية أكثر دراماتيكية وتأثيرا) وقلت له إنني أريد أن أسترد قلمي، ثم نبهته إلى أنني لو نسيت، أو انشغلت، فعليه أن يذكّرني.
ثم أعطيته القلم، فلطشه!
وأنا رجل حساس جدا تجاه أقلام الحبر. وبالرغم من أن أقلامي ليست غالية السعر تماما، إلا أنها تشكل جزءا من حياتي. وحتى ريشتها تتكيف مع أصابعي بصورة حميمة، تعتادني وأعتادها ونشكل معا علاقة تشبه العلاقة التي تتشكل بين أنف الرجل ونظارته.
ومن حقي طبعا أن أحب قلمي، فهذه قضية لا تعارض أية قوانين وضعها الإنسان؛ بل إن امتلاك الإنسان لقلم حبر هو حق من حقوق الملكية لم تنل منه أكثر إجراءات الاشتراكيين إمعانا في التأميم. ومعنى ذلك أنه حق مقدس، يشبه حق احتفاظ الإنسان بمعدته الخاصة.
ولذلك فقد كان لهاتين الحادثتين وقع الكارثة عليّ، وأشعرتاني بغضب حزين مهيض الجناح، شديد العجز. فمن ناحية أولى لا أستطيع أن أطارد السارق، ومن ناحية أخرى لا تستحق المسألة برمتها في عرف الشرطة أن أقدم شكوى.
فاللصوصية في القوانين هي جريمة تتعلق بثمن الشيء لا بقيمته، وسيكون من المضحك أن أشكو إلى الشرطة رجلا مجهولا ذهب إلى مكتب البرقيات دون أن يصطحب معه قلمي، ليلطش قلمي، وثمنه عشر ليرات.
إنه شيء يشبه أن يقوم <<بابلو نيرودا>> برفع دعوى على معين بسيسو، لأن الأخير لطش من الأول صورة شعرية عن <<الأشجار التي تموت واقفة>>.
من الطبيعي أن الشاب الذي لطش قلمي في المطار قد نسي أن يرجعه لي، ووضعه في جيبه بحركة بريئة، وكذلك الرجل الذي استعار قلمي في مكتب البرقيات الليلي في بيروت (كيف يذهب رجل إلى المطار بدون قلم، وكيف يجرؤ رجل ذاهب ليبعث برقية إلى مكتب البرقيات أن يذهب دون قلم؟ إن رجال الشرطة مطالبون بأن يفتشوا كل داخل إلى مكتب البريد، فإذا اكتشفوا أنه لا يحمل قلما منعوه من الدخول). أقول: من الطبيعي أن عمليات اللطش هذه لم تكن مقصودة تماما، ورغم ذلك فيجب أن لا تفر من العقاب، لأن تصرف قائد سلاح الجو العربي فجر 5 حزيران لم يكن مقصودا تماما، ومع ذلك فإن من المضحك أن نتركه يذهب إلى بيته، بالقلم الملطوش، لأنه نسي إرجاعه إلى صاحبه!
والفارق بين قلم الشخص، وبين السلاح الجوي لدولة من الدول، ليس كبيرا: فكما أن ضياع السلاح الجوي يفقد الدولة المعنية غطاءها الجوي، فإن ضياع قلم الحبر يفقد الشخص المعني قدرته على الكتابة، حتى إتمام إزالة آثار العدوان.
وهكذا عدت من مكتب البرقيات الليلي دون قلم حبر. فقد شغلني الموظف في جدل لا نهاية له حول عدد الكلمات وأسعارها وبقية الدرجة الأولى والدرجة الثانية، (ذلك المنطق الطبقي الذي لا يمكن التخلص منه)، وانتهز الرجل المجهول الذي استعار قلمي هذه الفرصة لينسى أنه استعار القلم، وبالتالي لطشه دون أي وازع من ضمير.
إنني أدعو الله أن يبتلي أولئك الذين يعتقدون حتى الآن أن هذا الموضوع تافه، بسرقة أقلامهم حين يكونون في أشد الحاجة إليها، كي يدركوا مدى جدية هذه القضية.
فكرت، حين وجدت أنني دون قلم (المرة الأولى في الطائرة، حيث لا توجد دكاكين لبيع أقلم الحبر كما هو معروف، وحيث يتعيّن على المسافر أن يملأ عشرات من الأوراق بالمعلومات؛ والمرة الثانية عند منتصف الليل حيث لا يمكن شراء قلم حبر رغم أنه كان عليّ أن أنجز مقالاً) فكّرت أنني لو كنت مكان الرجل الذي استفاد من فضيلة النسيان إلى هذا الحد، أكنت حملت القلم الملطوش إلى الدار، وقلت لزوجتي: <<اسكتي يا مرا.. لقد لطشنا قلما>>؟
لا!
على الأقل، كنت سألت الموظف المعني عن عنوان صاحب القلم الذي أرسل برقية قبلي، أو كنت تركت القلم عنده ليجده صاحبه حين يعود إليه ليسأل عنه..
وعلى أي حال، كنت قد أحضرت قلمي معي قبل ذلك كله، إذ كنت سأبدو مضحكا جدا لو أنني جئت إلى مكتب البرقيات دون قلم، مثل بطل سباحة ذاهب إلى مكسيكو دون مايوه!
هذا بالذات ما أسميه <<كف اللص داخل قفاز التهذيب الحريري>>، وهو أبشع من كف اللص العارية بما لا يقارن.
وأعترف الآن أن غضباً شديداً انتباني في الحالتين. وحين اكتشفت بيني وبين نفسي أن هذين الدرسين لن يمنعاني في المستقبل من إعارة قلمي إلى من يطلبه، ولن يمنعاه من أن يلطشه، ازداد غضبي إلى حد لا يطاق.
فلو أنني، في المستقبل، رفضت إعارة قلمي إلى شخص يطلبه بحجة أن زميلا له لا يعرفه قد استعار في الماضي قلمي وسرقه (بالنسيان أو بالعمد، سيان) لما كان بوسعه أن يفهم، ولا أن يغفر، وعليّ أن أتحمل نظرة الاحتقار والاتهام بالعجز عن مساعدة الآخرين.
وأنا أعرف أنني سأظل أعير قلمي، وسيظل المستعير يلطشه...
وكل سلواني هو أن يقرأ الرجل الذي استعار قلمي في المطار هذا الكلام، وكذلك الرجل الذي استعاره في مكتب البرقيات، وأن يشعرا بينهما وبين نفسيهما بالخجل والعار، وبعد ذلك ليحتفظا بالقلمين.
هذان القلمان، أيها السادة، كتبا رسائل غرام، وسطرا على هذه الصفحة زبدة الشتائم الأدبية المعروفة في هذا البلد، ووقعا على ذيول عشرات من الكمبيالات والسندات، وقد استعملتهما أحيانا كما يفعل أي شخص آخر أداة أعض عليها حين تعاندني الفكرة. أي إنهما جزء من حياتي، ومع ذلك فبوسعكما الاحتفاظ بهما، علهما يلسعانكما بالذنب كلما حاولتما أن تكتبا بهما بطاقة خروج أو برقية...
فالقلم مثل القتيل، يخرج من ريشته حين يُلطش غراب أسود يظل ينعق: اسقوني، اسقوني، حتى يؤخذ بثأره، أو ربما تتعطل ريشته فينضح في قميصيكما حبره الذي لا يغسل بالماء

أمجد ناصر يكتب الى غسان كنفاني :
------------------------------------



رجل من أرض البرتقال الحزين


هل كان يشبهني؟
هل كان يعرف أنني سأجي ذات ظهيرة حمراء
أوشك أن أعانق مهجةً وسحابةً
تتحاوران علي غلاف مجلةٍ كتبتْ وصية ليْلكٍ متطايرٍ
بين الصباح وحزمة الديناميت؟
حاذت ذهولي رعشة الصور الأليفة
والفراشات المغضنة الجبينْ.
حاذت ذهولي
رشقة النظرات من عينين تقترحان خارطة الحنينْ
حاذت نحولي
طفلة حلَّتْ ضفائرها الذهبْ
وخاضت في الرنينْ .

هذا ما قاله شاب في الثانية والعشرين وهو يري صوره معلقة علي جدران مكتب متواضع يطل علي كورنيش المزرعة في بيروت. كان الشاب القادم من عمان مرتبكا وهو يدخل المكتب ويري صور ثوار عالميين بلحي كثة أو خفيفة، بسيجار أو بقبعات مزينة بنجمة خماسية، صورا لرجال حرب عصابات بالكاكي في الجبال، او في حقول القصب، ملصقات لقادة يخطبون في الجموع بغضب. قبضاتهم المشدودة تخضُّ الهواء. يتطاير من أفواههم البليغة نحاس ووعود وقرنفل أحمر، ولكن بين كل تلك الصور التي صنعت هوية المكان وجعلت للثورة العالمية سلالة محلية كانت صوره، لا أحد سواه، هي التي تسمّرت عندها عينا الشاب القادم من عمان. انه، الآن، في عرين غسان كنفاني. في المكان الذي ترددت فيه خطاه، أنفاسه، ضحكاته، وسطّر، في الغرفة التي تقع الي اليسار، قصصا ومقالات لا تأكلها النيران، وشرب عددا لا يحصي من فناجين القهوة ودخن جبلا من السجائر والتقي صحافيين وفضوليين، وربما جواسيس، وظل لديه فائض من الوقت لاجتماعات المكتب السياسي .. ووقت آخر لآني وفايز وليلي.. والحديقة الصغيرة امام البيت.
كانت قد انقضت خمسة أعوام علي تلك الصبيحة التموزية التي هزَّ فيها انفجار سيارة مفخخة ضاحية الحازمية ، وترددت أصداء الخبر الصاعق في انحاء العالم العربي المتثائب.. اغتيل غسان كنفاني. كان يدير مفتاح سيارته عندما انفجرت شحنة الديناميت التي تأكد واضعوها، مئة بالمئة، انها كافية لتمزيقه إربا إربا من دون أن ينسوا ترك علامة تدل عليهم بوضوح: مع تحيات السفارة الاسرائيلية في كوبنهاغن!

عودوا معي الي الوراء.
أنا الآن في الثانية والعشرين من العمر. شاب بشعر طويل، وبدهشة وخجل يمكن ملاحظتهما، بسهولة، في عينين تحاولان التأكد انهما في المكان نفسه الذي أطلق فيه غسان آخر مشاريعه الصحافية: مجلة الهدف . أصعد درجات الي الطابق الاول وأجد بابا مفتوحا علي غرفة استقبال تجلس فيها، وراء طاولة مكتب كبيرة، فتاة سمراء ترتدي قميصا قطنيا خفيفا، شعرها الأجعد فاحم السواد يترسم تصفيفة غجرية كانت سائدة في السبعينات. أقول للفتاة التي في مثل سني: أنا فلان ولدي موعد مع (الرفيق بسام أبو شريف). بدت لي الفتاة، التي جلستُ علي كرسي بجانب مكتبها، أنها هي التي تدير المجلة، فقد كانت تتحدث في الهاتف او مع الموظفين الذين يمرون بمكتبها بلهجة قاطعة. سمعت اكثر من موظف يناديها (الرفيقة آمنة). طال انتظاري بعض الشيء ولم تمكني طريقة (الرفيقة آمنة) الجافة والرادعة في الكلام من تذكيرها بموعدي. هي التي انتبهت الي تدخيني المتواصل الذي يعكس توتري او ضجري فقالت: هناك وفد صحافي اجنبي عند الرفيق بسام ، وعندما يغادر الوفد تدخل انت. كانت كلماتها حاسمة. ولما قابلت بسام ابو شريف، رئيس تحرير (الهدف) بدا انه هو الذي يشتغل عند (الرفيقة امنة)، اذ اجابته عندما طلب منها فناجين من القهوة قائلة: مش فاضية هلأ!
طبعا كان عليّ ان اري مزيدا من صور غسان في مكتب بسام. ولكن كان عليّ ان الاحظ اولا الجراح التي خلفها الطرد الاسرائيلي الملغوم الذي انفجر في يد بسام ووجهه. لم تكن مقابلتي مع بسام هي التي ستقرر عملي في (الهدف) اذ ان العمل كان مقررا سلفا من قبل نائب الامين العام للجبهة الرفيق ابو علي مصطفي بوصفي، اصلا، عضوا في التنظيم. كان لقاء للتعارف لأن رسالة ابو علي مصطفي بخصوصي موجودة امامه.

كان المكان معبأ برائحته الخفية. كانت صوره تخفق علي الجدران وفي الممرات الضيقة. الصور تتنفس بعمق، ثمة ايضا خطوات غير مرئية تطوف في المكان. لم يره رفاقه، هنا، منذ السابع من تموز. كانوا علي موعد صباحي معه عندما غادر بيته تحيطه هالة من عالم آخر وتحت حزامه مسدس بحجم راحة الكف لم يقيض له استعماله.
عندما جلست الي طاولة مكتبي الخشبية اول مرة لأكتب شعرت انه يراقبني. انه يطل علي من صوره المعلقة علي الجدران. ثمة حضور قوي مصحوب برائحة، لعلها رائحة الكينا، عليّ اذن ان أكتب بهدوء وان (أحسّن) خطي، فهو علي ما يبدو، لا يحب الخربشة . اتطلع الي الجدران فأراه هناك. لكنه ليس مجرد صورة علي جدار، كما لم تكن عكا محض صورة في الالبوم الذي احضروه له بعد عشرين سنة من الرحيل.
هل تغير المكان كثيرا؟ لقد اضافوا اليه بعض اللمسات، ولكنه ظل موجودا في كل ركن وزاوية وجدار وردهة. انه، هو سيد المكان. ليس بسبب كثافة الذكري، ولا بقوة الملصقات الكبيرة. ولكن بسبب الروح التي تتلبسه. يندهش كل من ينظر اليه : هذا الرجل النحيل، الناعم، الهش، ذو الستة وثلاثين عاما هو، نفسه، غصن النار؟ هو ذاته الذي لم يسمع بـ (الارهاب الدولي) بعد، ولكنه عرف، تماما، عنف الثورة؟ اتساءل الآن: لو عاش غسان هل كان ستفت في عضده فزاعة (الارهاب)؟
تنظر اليه فتقول: هذا الرجل رقيق وشاحب كعاشق ينظم عقدا من الياسمين لحبيبته تحت ضوء القمر. ولكنك تعرف انه عاصف وعنيف ايضا، عندما يتعلق الامر بـ (ارض البرتقال الحزين).
في موعد ذكري استشهاده اقترحت ان نصدر عدد (الهدف) كاملا عنه، وليس فقط تخصيص الصفحات الثقافية الثماني لذكراه. فوافق بسام علي الاقتراح. اقترحت ان اجري حوارا مع (الحكيم) حول غسان الكاتب وليس السياسي، او الاعلامي، كما جرت العادة. ذهبت الي الحكيم في مقر المكتب السياسي في شاتيلا. قلت له اننا سنصدر العدد كاملا عن غسان ونريد ان نتحدث معك عن غسان ككاتب. وافق الحكيم. قال بحسرة خالصة: آه.. غسان شيء لا يعوض، كان فنان المكتب السياسي، يدور النقاش ويحتدم وهو منكب علي اوراقه، يرسم، يخطط، نكتشف انه كان يرسمنا في صورة لا ترضينا احيانا. احدهم في المكتب السياسي كان موديله المفضل. لم يسم الحكيم اسم ذلك الرفيق لكننا عرفناه. قال ايضا: كان شابا متحمسا، اصطفيته مع اثنين من مجايليه للعمل في الصحيفة التي نصدرها، احدهما بلال الحسن.
وقال: كنا نلتقي في الآحاد في حديقة بيته بالحازمية، عائلته وعائلتي ونتحدث عن اشياء كثيرة.
كان يطلعني دائما عن جديد الأدب. واذكر انه حدثني عن ادب امريكا اللاتينية. وربما تحدثنا عن قصة او رواية ما يزال يشتغل عليها. كان يحب الاشجار والزهور، ويعتني بالحديقة. وكان يحب شقيقته فايزة المتزوجة في الكويت، فقد كانت تساعده وتحنو عليه.
ويضيف: كنا نتلقي تهديدات كثيرة آنذاك، احطناه بالأمر، ولكنه لم يبال كثيرا. آه.. غسان شيء لا يعوض. اكتشفت انه ليس ممكنا الدخول في سجال عن الكتابة الادبية وخصوصية غسان الروائية مع (الحكيم). فهو رغم علاقته بالمثقفين كان رجل سياسة. الأدب عنده (سلاح) في خدمة القضية. ولكن ما قاله (الحكيم) عن غسان كنفاني في حوار ذلك العدد الذي وضع رسوماته الفنان العراقي يوسف الناصر كان كافيا، وبالتأكيد كان مختلفا عن حواراته السابقة التي أمكن لي مطالعتها في مجلدات (الهدف) السابقة.

أجلس الي طاولة مكتبي لأكتب. أمزق ما كتبته. فهو ينظر الي من عينيه الساحرتين نظرة ثابتة تربكني. تفيض رائحة الكينا في هواء المكان. اتذكر قصته عن الطالب والتفاحة. المعلم يقول لابن المخيم الصغير: ارسم تفاحة علي السبورة. والطفل لا يرسم تفاحة. ارسم تفاحة. تفاحة، فيرسم الطفل شيئا آخر. يدرك المعلم ان ابن المخيم الصغير لم ير تفاحة من قبل. وكان علي ابن المخيم هذا ان يرسم، لاحقا، صورة بلاده الاسيرة بسرديات صارت عقدة لمن سيكتبون بعده.
اذهب لأتزوج في بعلبك. اطالع الصحف في صبيحة العرس فأري المشهد التقليدي السنوي: عائلة واصدقاء غسان وعدد من رفاقه يضعون اكاليل الورد علي ضريح بشاهدة تحمل صورته. اقول لنفسي: يا للمفارقة! ولكني لا افوت الذهاب الي مقبرة الشهداء. ومع الوقت أكتشف انني لا أزور غسان وحده، بل ازور، كذلك، (الشهداء الثلاثة) ولميس وماجد ابو شرار وووو.

اول صورة علقتها علي مكتبي في الجريدة في لندن هي صورته. نفس الصورة التي كانت تطل عليّ من جدران مكتب يطل، هو الاخر، علي (كورنيش المزرعة) في مدينة تطل علي ارض البرتقال الحزين.

أمجد ناصر : أديب وشاعر أردني



الرمز في أدب غسان كنفاني
-------------------------------

توفيق علي إسماعيل

إن طريقة التعبير، توازي، في الأهمية ما يُراد التعبير عنه. وفي العمل الأدبي الناضج يفرض المضمون الشكل الذي يتطلبه.. فلا يعود هناك، مثلاً، مضمون متقدم مع أسلوب تقليدي، أي لا يعود هناك فصل بين المضمون والشكل.. والتجربة الجديدة تحمل بالضرورة شكلاً جديداً خاصاً بالكاتب نفسه.


قد لا يكون ما قدمه غسان كنفاني على الصعيد الفني شيئا جديدا للغاية وإنما بالتأكيد فرض المضمون على كنفاني الشكل الذي يناسبه.. وهكذا تنوعت أشكال الكتابة عنده، فكان أحيانا يتبع الأسلوب الواقعي المبسط كما في <<أم سعد>> وفي <<عائد الى حيفا>> وغيرهما.. كما كان أحيانا يتبع الأسلوب الرمزي.
إن كنفاني وإن اعتمد على الواقعية الى حد كبير، إلا أن ذلك لا ينفي وجود الرمز في الرواية.


فمعظم رواياته لا تخلو من الرموز التي ترمي الى دلالات معينة، فإذا تتبعنا رواياته، نجد أنها تحفل بالرموز:
فزراعة فرع الدالية الذي يرمز الى أن الأمل يبقى رغم الهزيمة، ففعل (زرع) يشكل وحده الرواية، إذ إننا نرى <<أم سعد>>، منذ البداية، تزرع فرع الدالية، وكلها أمل أنه سيبرعم يوما ما بعكس المثقف الذي يظن أنه جاف ولن يبرعم أبدا. لكن نظرة <<أم سعد>> تكون هي الصائبة وتبرعم الدالية.


هناك أيضا <<أم سعد>> وهي رمز المرأة (الأم الفلسطينية).. إنها تعطي ولديها للثورة.. يقول عنها <<أبو سعد>>: <<هذه المرأة تلد أولادا فيصيرون فدائيين، هي تخلّف وفلسطين تأخذ>>.
فأم سعد هي أم الجميع.. إنها الفلسطينية في داخل فلسطين، وهي أم الفدائي الذي شب على أرض المنفى، هي أيضا الأم الروحية للمثقف الثوري الذي يريد أن يكون ابناً باراً لفلسطين الثورة وفي فلسطين الكادحين.
الرفاق محاصرون، جوعى، منذ أيام عدة.. تمر امرأة فلسطينية عجوز على الدرب. يقول لهم <<سعد>>: <<ها قد جاءت أمي>>، أحد الرفاق يقول له إنه جن لأنه أمه في المخيم. لكن سعداً أصر: <<أنتم لا تعرفون أمي.. إنها تلحق بي دائما، وهذه أمي>>.
ورغم اعتراض رفاقه، وخوفهم من أن تشي بهم العجوز لليهود، إلا أن سعداً يناديها قائلاً:
<<يا يما ردي علي..
يا يما ردي علي..
أنا هون يما..>>
ويتابع.. <<أنا سعد يا يما جوعان>>.
يقترب سعد من المرأة لتحتضنه.. ثم في الأيام التالية تأتيهم بالطعام، وتدعو لهم بالتوفيق وتخبرهم عن اليهود.
عندما عاد سعد الى المخيم قال لأمه إنه رآها هناك..
نخلص مما سبق، إلى أن أم سعد هي رمز المرأة الفلسطينية (الأم).
ومنذ أن كتب د. إحسان عباس مقدمة الأعمال الروائية الكاملة (6) لغسان، والدراسات النقدية تثرى بمتابعة رأي الناقد كمسلمة، وهي أن <<أبو الخيزران>> رمز القيادة الفلسطينية، فقد كان يكفي أن يشير ناقد كبير كالدكتور عباس الى هذه الدلالة حتى تتحول الى يقين رمزي.
يشير د. عباس في مقدمة الأعمال الكاملة الى أننا لو اتخذنا <<أبو الخيزران>> مدخلا لفهم هذه القصة (رجال في الشمس) لما تعذر علينا أن نرى فيه رمزا للقيادة الفلسطينية. وهي تؤدي دورا <<قاتلا>> مغرورا خادعا مخدوعا قائما على المداورة والمراوغة والكذب، فإنها في ذلك شأن <<المهربين>> ممثلي القيادات العربية الأخرى، لافتا الانتباه الى أن فقدان <<أبو الخيزران>> لقدرته الجنسية رمز لعجز القيادة وعنتها في 1948، وظلت مع ذلك، تدعي أنها تستطيع توجيه الفلسطينيين وإنقاذهم، ويمضي الناقد مؤوّلاً كل أحداث الرواية على ضوء هذه القراءة الرمزية لها، مانحاً تحليله أقصى حدود التماسك المنطقي الداخلي للتأويل.


ولكن د. عبد الرزاق عيد له رأي آخر في شخصية <<أبو الخيزران>>: نقول ليس من المعقول من وجهة عامية مسردية، ودلالية رمزية، أن تكون شخصية عادية، مهملة، سائق شاحنة، رمزا للقيادة الفلسطينية، بل إن <<أبو الخيزران>> ذاته هو الذي يصرخ في نهاية الرواية <<لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟.. لماذا لم تقولوا، لماذا..>>.
وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى: <<لماذا لم تدقوا جدران الخزان، لماذا لم تقرعوا جدران الخزان، لماذا، لماذا، لماذا؟>>.


إذاً كان غسان يتابع د. عيد يريد تعرية القيادة الفلسطينية، وفق قراءة الدكتور عباس، فإن علاقات النص الحضورية، وفق تموضعها في المتن والبناء لا تتيح للمتلقي أن تهتاج في داخله حالة من الذهول لهول الخاتمة التي تتوّج مسار الأحداث. لم يتكوّن شعور السخط نحو <<أبو الخيزران>> رمز القيادة المدانة، سوى في لحظتين، لحظة رميه الجثث عند كومة القمامة، ولحظة عودته الى استخراج النقود من جيوب الجثث، وانتزاعه ساعة مروان، مع ذلك فإن الحيادية الشديدة التي يمارسها منظور السرد عبر (الراوي) تقدم تبريرا لفعلة <<أبو الخيزران>>.


فدافعه، وفق تعليل السرد ذاته، أنه كان يهدف من رمي الجثث بجانب كومة القمامة أن تكتشف عند الصباح، وتدفن بإشراف الحكومة، فقد كان <<لا يروقه أن تذوب أجساد الرفاق في الصحراء، ثم تكون نهبا للجوارح والحيوانات.. ثم لا يبقى منها بعد أيام إلا هياكل بيضاء ملقاة فوق الرمل>>.


وكنفاني هنا إذ يحاول تقديم رواية واقعية بأبعاد رمزية، فإنه يحاول استعمالا جدليا للرمز في ذلك التفاعل الجدلي الذي يقيمه بينه وبين الواقع، محددا عبر ذلك رؤيته التاريخية الاجتماعية، أو بالأحرى موقفه التاريخي الاجتماعي. محاولة لا يمكن الحكم عليها إلا بتتبع آلية إنتاجها تفصيليا.


وفي هذه البنية بالذات، البنية الرمزية لرواية واقعية، يعلن غسان كنفاني موقفه على أنه إدانة كاملة للابتعاد عن الأرض (فلسطين).


وإذا عرجنا على القسم الأول من مجموعة غسان كنفاني القصصية التي أعطاها عنوان <<عن الرجال والبنادق>> مثل رواية قصيرة فالشخصية هي نفسها في القصص الخمس، والحدث يتنامى ويتطور من لحظة لأخرى، حتى يصل الى غايته الأخيرة أو الى خاتمة الرواية.. إلخ. ودون أن ندخل في تفصيلات الفرق بين القصة القصيرة والرواية، نرى أن كنفاني قد اختار أن يضع لكل واحدة منها عنوانا طويلا يشير الى موضوعه الأثير المحبب في أدبه كله: فتحمل القصة الأولى العنوان التالي: <<الصغير يستعير مرتينة خاله ويشرق الى صفد>>. وما يحدث فيها حين يذهب منصور الى خاله ليطلب منه إعارته البندقية كي يشارك في المعارك التي تدور حول قلعة صفد، فالسلاح هنا هو الذي يشكل الرمز بالنسبة للصغير منصور، والإشارة الضرورية الى معنى المقاومة والثورة. ويحقق منصور مأثرته حين يصوّب فوهة بندقيته ويصيب الرامي من طلقة واحدة، فيسمع صرخة التحية: <<آه يا سبع يا أبو العصا>>.

ولا تنتهي رحلة كنفاني عند هذا الحد، بل يعود الى الرمزية في رواية <<الأعمى والأطرش>> حيث يتمثل الرمز في تسمية الأعمى بالولي أولا، وفي حمل الأعمى للميزان وتشبيهه <<بفورتونا>> <<ربة العدالة>>.

أيضا يتمثل الرمز في القدرة على اجتراح المعجزة التي تدل على قيامة شعب بأكمله هو الشعب الفلسطيني، وكل معذبي الأرض.

هناك أيضا الشخصيات التي تمثل شرائح فلسطينية، مثلا <<مصطفى>> هو الجانب الانتهازي في الثورة.. إلخ.

كثيرة هي الأشخاص في روايات كنفاني التي تحمل رموزا معينة، فهذا <<دوف>> مثلا.. إنه رمز لجريمة جيل فلسطين منذ أن ترك الأرض وتباكى على فقدها. وهناك <<خالد>> رمز الجيل الجديد الذي يحمل السلاح، وهناك أيضا الأب الذي يرمز الى الكثيرين ممن هربوا وتركوا وطنهم.

وإذا ما تطرقنا في الحديث عن مسرحية <<الباب>> (1964)، نجد أن الباب هو رمز لمملكة الرب، هو رمز للرب ذاته. ووجود الشخصية الطاغية (الأم)، الجدة، في المسرحية، وشجرة الزيتون، يعبران عن تناقض، فكلتاهما رمز فلسطيني قوي وواضح، وليس في أدب غسان وحده، بل في مجمل الأدب والحياة الفلسطينية. وإذا كان الرمزان هنا يتخذان شكلا مختلفا وخاصا في العلاقة بينهما، فربما كانت هذه مساهمة غسان في هذه المسرحية بشأن القضية الفلسطينية. ربما كان المفتاح هو التمرد على هيمنة الضمير والتقاليد، وحتى الأم، لصالح حرية الإنسان وإرادته وفكرته شجرة زيتون.

وفي مرحلة لاحقة، بدا واضحا أن كنفاني قد تجاوز الرؤية الرومانسية للمرأة وانطلق في عالم الكتابة عن الرجل والمرأة في إطار الكفاح الوطني، حيث تغدو المرأة، أحياناً، مصدر إيحاء بالبقاء في الوطن والتمسك بالأرض، وأحيانا تصبح رمزا للطريق الى الوطن وأحيانا تكون ذاكرة الشعب الحية التي لا تموت ولا تنسى ولا تغفر لأعداء الوطن.

إن غسان الذي صوّر دموع المرأة مصدر إيحاء ليبقى منشدا الى جذوره وترابه وأرضه. كانت أيضا مبعث قوة للذي أنهكه التعذيب، ليعود فينتقم.
لقد دفعت المرأة حياتها لأنها بالذات امرأة ترمز للعطاء والولادة والتجدد.
يتصاعد هذا الرمز للمرأة في ارتباطها بالوطن، لدى غسان، في قصة <<العروس>> ضمن مجموعته الثالثة <<عالم ليس لنا>>.
وكذلك ارتقى غسان بالمرأة رمزا عندما ضمنها معنى السلاح ورمز الحرية، حتى تصبح العروس البندقية، أو البندقية العروس رمزا متلاحما لا انفصام فيه يجسد معنى البشارة والولادة الجديدة.

وقد سجل كنفاني للمرأة اعترافا في أكثر من موقع بتحملها الأعباء الرئيسية الناجمة عن فقدان الأرض وتشتت الشعب وتشرذم الأسر والانعكاسات الاجتماعية الاقتصادية على الفلسطينيين في أعقاب النكبة واستلاب الأرض. من هنا لم يكن غريبا أن يصدر مجموعته القصصية الأولى بإهداء يقول:
<<إلى أختي فائزة إن كان في القصص ما يستحق أن يهدى>>، الى العزيزة فائزة ليس فقط لأنها شقيقته، وليس فقط لأنها الكبرى التي تحمّلت الأعباء الأسرية الجديدة التي أعقبت التشرد الفلسطيني، بل لأنها أيضا كانت رمزا للأم والأخت الفلسطينية في مرحلة ما بعد النكبة.


لقد ارتبط غسان بالمرأة في حياته، وفنه. ومن العجب أن رحيله أيضا قد ارتبط بلميس التي أهداها ذات يوم مجموعة <<عالم ليس لنا>>، فكان غسان يصر على أن يكون رفيقا للمرأة ليس فقط في رحلة حياته، بل حتى في أسطورة استشهاده.
إن للرموز دورا هاما، ليس فقط في المساهمة بالإبداع والتجديد، بل في التمييز بين ما هو أدب وغير أدب، كما يقول جبرا <<الأدب في حاجة إليها، إذا أراد صاحب الأدب ألا يكون مجرد صحفي التقارير الآنية، أو مؤرخ يؤرخ هذه الأحداث، أو فيلسوف يرى النظريات التي تتحكم بها، أو عالم اجتماعي يتابع تغيرات الحياة...>>.
والروائي لا يعيش في ملكوت خاص به، ولا يستمد من خياله فقط مادته الروائية، ومهما أغرق في الخيال لا بد أن يستمد رموزه من مجتمعه، ولا بد أن يعكس صورة لواقعه، كما يفعل المؤرخ.

وبكلمة أخيرة يمكن القول: ان تأرجحا مستمرا بين الواقعية والرمزية يظهر في كتابات غسان كنفاني.. فهو يمر في مراحل من الواقعية الى الرواية المبسطة فالرواية المعقدة فالواقعية من جديد ثم الرمزية.
لقد وصل كنفاني الى الجماهير.. وصل قبل أن تصل إليه الأيدي الأثيمة لتضع تلك القنبلة.. وصل لأنه كان أديبا له أصالته، وله صوته الخاص الذي، وإن كان لم يقدم كثيرا من الأشياء الجديدة، إلا أنه كانت له خصوصيته، كما .أوضح الكثير من الأمور.



صورة المرأة في روايات غسان كنفاني
---------------------------------------
د. صبحية عودة


عرف غسان كنفانى فى حياته القصيرة المرأة بصورها المتعددة: الأم، والأخت، والحبيبة، والزوجة.. عرف الأم بشخصيتها النموذجية التى تضحى بكل ما تملك فى أحلك الظروف التى مرت بها أسرته، فكانت هى الملاذ الأمن فى تلك الأزمات، وقد تحول حبه لأمه بعد وفاتها الى شقيقته "فايزة" التى صارت هى الأم والأخت والصديقة، حتى أنه جعل أغلب قصصه مهداة إليها ولابنتها "لميس" والتى أحبها حبه لنفسه. يقول فى إحدى رسائله: "إننى أعطيك نفسى يا نفسي، ولا أعتقد أن هناك أغلى من نفس الإنسان على نفسه كى يقدمها الى من يحب ويأمل".
أما الزوجة فكانت فرارا وليس استقراراً، وقد كتب لشقيقته "فايزة" عن هذا الزواج فقال: "كانت بعيدة عنى فى كل شيء، واحتجت الى خمس سنوات لردم الهوة المفتوحة بيننا، فحين عجزت عن ردمها كما ينبغى ردمتها بطفلين، وكنت أعرف ان الشراع المطوى فى أعماقى سيمتلئ برياح الغربة من جديد، وبقسوة السكين تخليت عن حياتى السابقة فى سبيلها، كانت وما تزال امرأة رائعة".
كان غسان كنفانى صادقا فعلا لا قولا فى بوحه بتفاصيل من قائمة المحظورات فى واقع مزيف، حيث الكذب جزء أساسى من نسيج العلاجات فيه. أما نموذج المرأة الصديقة فقد ظهر فى رواية "برقوق نيسان" من خلال التقارب الفكرى والاجتماعى والتمرد على الواقع، وتعد علاقة زياد حسين بالبطلة سعاد خير مثال على تجسيد مقولة "الصديق وقت الضيق".
أما نموذج العشيقة، فقد سلك غسان كنفانى مراتب الحب كلها.. الإعجاب، فالعشق، فالشهوة، فالتذلل ثم العبادة والخضوع، وقاده هذا السلوك الى الإيغال فى الرومانسية المطلقة الى آفاق مجهولة. يقول فى بعض رسائله التى هى خير شاهد وأصدق ناطق: "أؤمن بك كما يؤمن الأصيل بالوطن، والتقى بالله، لا كما يؤمن الرجل بالمرأة".
رغم هذا الحب الجارف المنحاز الى الحبيبة، فإنه ظل وفيا مخلصا لزوجه ولكن بعواطف متناقضة ومتباينة كما هو موجود فى رواية "الشيء الآخر". لقد كان همه الأكبر يكمن فى وجود من يفهمه ويتفهم موقفه، فلا يجد غير شقيقته "فايزة" التى يكتب اليها..
"أنا أعرف أننى أحتاج أن أكون وحيدا، أظل أكتب فى هذه الأوراق لك، لترى بعينيك قصة رجل ينتهي، أو يبدأ، أو ينزلق أو يغترب أو يموت بالصدفة.. أفهمت كل شيء الآن يا فائزة؟".

هكذا كان موقف غسان كنفانى من المرأة بكل أبعادها، وأيا كانت هذه العلاقة فقد طغت صورة الأم فى أغلب رواياته، فهى تمثل محور آلامه وآماله، وحصن الأمان الذى يلجأ إليه فى المواقف الصعبة، بل يعدها بدلا عن الوطن، فحين تعرض "مروان" فى رواية "رجال فى الشمس" لصفعة قوية على وجهه من الرجل السمين بالبصرة لم يجد ما يعيد إليه كرامته المهدورة إلا أن يكتب رسالة لأمه، وفى رواية "ما تبقى لكم" ما برح "حامد" يذكر أمه فى كل مناسبة بقوله: "آه لو كانت أمى هنا".
أما فى رواية "أم سعد" فقد وضع الأم فى مكانة غاية فى الأهمية حيث تعدت الدور المألوف، ومثلت مدرسة قائمة بذاتها يتعلم منها الراوى دروسا فى الحياة والتاريخ والثورة..

لعلنا نلاحظ بعد هذا العرض انعكاس صورة المرأة بواقعها الاجتماعى والثقافى فى وجود نماذج متعددة للمرأة الضعيفة المستسلمة والقوية المتحررة ومن ثم خلق المرأة الإيجابية المثقفة التى تقوم بالدور الفاعل الى الأمام من خلال المجموع كما جاء فى روايتى "أم سعد"، و"برقوق نيسان".
وهذا ما كان يسعى إليه غسان كنفانى دائما. وقد تحقق على أرض فلسطين اليوم والتى نجد صداها فى صورة المرأة ودورها البطولى الملحمى فى روايات الانتفاضة. فهنيئا لكل شهيد قدم حياته ثمنا لحرية الوطن، وجعل للموت معنى أثمن من الحياة نفسها.



في ذكرى استشهاد غسان كنفاني: الإنسان و القضية
----------------------------------------------------
عزمي الخواجا

غسان كنفاني ابن عكا ولد عام 1936 عام اضراب الفلسطينيين الشهير ضد البريطانيين، لقد عاش غسان القضية منذ البداية، حيث سكنت عائلته في حي المنشية بيافا بجانب تل أبيب، فقد شهد حوادث الاحتكاك بين العرب واليهود بعد قرار التقسيم رقم 181، وبعد أن هاجرت عائلته بشكل قسري من عكا في أواخر نيسان العام 1948 بسبب ارهاب اليهود، واستقرت عائلته في دمشق، حيث اشترك في برنامج فلسطين في الاذاعة السورية، كما اشترك في برنامج الطلبة. واثناء دراسته اللغة العربية برز تفوقه في الأدب العربي وكذلك في الرسم، وبعدها عمل غسان مدرساً في مدارس وكالة الغوث في سورية، ثم التحق بجامعة دمشق، حيث اسند إليه تنظيم جناح فلسطين في معرض دمشق الدولي، وانخرط في صفوف حركة القوميين العرب، وبعدها سافر الى الكويت ليعمل مدرساً هناك، وبدأ يحرر في احدى صحف الكويت، ويكتب تعليقاً سياسيا بتوقيع "ابو العز".
وفي الكويت كتب أولى قصصه القصيرة "القميص المسروق"، وقد نال عليها الجائزة الأولى في مسابقة أدبية.
في العام 1960 حضر غسان الى بيروت للعمل في مجلة الحرية، وكانت ناطقة باسم حركة القوميين العرب، ويكتب مقالاً اسبوعيا في جريدة المحرر اللبنانية، ولأن غسان ظهر كصحفي ومفكر وعامل جاد ونشيط للقضية الفلسطينية، فقد أصبح مرجعا لكثير من المهتمين، وقد تعرف على زوجته آني بينما كان أحد اعضاء وفد لطلاب فلسطين حيث عقد المؤتمر في يوغسلافيا، وكانت زوجته آني ضمن الوفد الطلابي الدنماركي، وسمعت من الوفد الفلسطيني لاول مرة عن القضية الفلسطينية، وعندما طلبت المزيد عن القضية الفلسطينية، اشار عليها البعض بمقابلة غسان كنفاني، حيث اصبح مرجعا للقضية الفلسطينية، وقد زار وإياها بعض المخيمات الفلسطينية في لبنان، وكانت شديدة التأثر بحماس غسان للقضية والظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، وتعرف عليها غسان جيدا وتزوجها في 19/10/1961
كان أدب غسان كنفاني وانتاجه الأدبي، متفاعلاً دائماً مع حياته وحياة الناس، وفي كل ما كتب كان يصور واقعاً عاشه أو تأثر به، وكانت روايته عائد الى حيفا يصف فيها رحلة مواطني حيفا عندما اضطروا الى الهجرة، وبعد حزيران 1967 يصور غسان الجدل العنيف والمرير بين الولد وأمه عندما حاولت ان تزور بيتها في حيفا وتتعرف على ابنها الذي تركته اثناء الهجرة. ثم "أرض البرتقال الحزين" وهي تروي قصة عائلة فلسطينية من عكا هاجرت وسكنت في حي الغازية في بيروت، ثم "موت سرير رقم 21" حيث استوحاها من مكوثه في المستشفى بسبب المرض، "ورجال في الشمس" وتحكي قصة حياته وحياة الفلسطينيين في الكويت، وسفرهم من الدول العربية الى الكويت من أجل العمل، وقد عاد غسان من الكويت الى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء، وختم روايته رجال في الشمس بكلمته المأثورة. "لماذا لم يدقوا جدران الخزان" ايذانا برفض الظلم، ورفض الواقع المرير، هذه العبارة التي اضحى الكتاب والصحفيون والناس يرددونها تعبيراً عن عدم الاستسلام للامر الواقع، وايذاناً ببدء العمل لتحطيم القيود. ورواية "ما تبقى لكم" والتي تعتبر مكملة لرجال في الشمس حيث يكتشف البطل طريق حل القضية في أرض فلسطين، وكان ذلك تبشيرا بالعمل الفدائي، وقصته "ام سعد" وغيرها وكلها كانت مستوحاة من أناس حقيقيين.
وكتب غسان دراسة عن ثورة 1936 في فلسطين ثم كتب غسان كنفاني مسرحيات، منها مسرحية "الباب" ومسرحية "القبعة والنبي"، كان نشاطه الفكري العارم والقلق والمصطخب، وقد كتب الكثير من مؤلفاته في الـ15 سنة الأخيرة من حياته، فقد كتب الكثير: القصة، والرواية، والمقالة، والدراسة، والتحقيق الصحفي، والمسرحية ورسم رسومات كثيرة معظمها لفلسطين وكان مبدعا في ذلك، كانت فلسطين موضوع حياة غسان وموضوع كتاباته ورسوماته ورواياته وموضوع مقالاته، وقصصه القصيرة، وكانت ايضا موضوع حياته وموضوع موته، وهنا تكمن عبقرية غسان كنفاني هذا الاخلاص الكامل للقضية مع الصدق لهذا الاخلاص، بحيث استطاع ان يكتب كل هذه الاعمال. ان عمق احساس هذا الانسان المؤمن بقضيته وبشعبه، حقا كان غسان المناضل غسان الكاتب، غسان الانسان والصحافي والروائي والرسام، غسان الفنان، لقد جسد ابن ارض البرتقال الحزين ظاهرة غير عادية، عاش من أجل فلسطين واستشهد من أجل فلسطين، لقد كان سريعا وعميقا في استيعابه لما يقرأ، وكانت فلسطين موضوع حياته.
ان غسان كنفاني هو أول من كتب عن شعراء المقاومة، ونشر لهم وتحدث عن اشعارهم وعن زجلهم الشعبي في جريدة المحرر اللبنانية الذي كان يترأس تحريرها وفي ملحقها فلسطين، وكان سباقا في تعريف العالم العربي على شعر المقاومة، وقد سمى شعر شعراء الارض المحتلة بشعر المقاومة، حيث لم تخل مقاله كتبت عنهم من معلومات الا وكتبها غسان، واصبحت مقالاته عنهم ومن ثم كتابه عن شعراء الارض المحتلة مرجعا مقررا في عدد من الجامعات، وكذلك مرجعاً للدارسين، حيث كان الشعر ولا يزال أحد وسائل التعبير عن هذا الواقع وعن هذا الصمود، لقد كتب غسان عن الشاعر محمود درويش والشاعر توفيق زياد والشاعر سميح القاسم، كما كتب عن أدب المقاومة في 1984، وهو بهذا كسر الحصار المضروب حول أوضاع العرب في الارض المحتلة داخل الخط الأخضر.
نحن بحاجة ماسة لنستوعب الطاقات والمواهب التي كان يتمتع بها غسان كنفاني، صداقاته حيث لم يكن له عدو شخصي في أي وقت، كان انسانا متواضعا، وهو الرائد الذي لم يكن يهمه سوى الاخلاص لعمله ولقضيته، هل نتحدث عن تضحيته ام نتحدث عن عفة يده، وهو الذي عرضت عليه الاموال بالالوف والملايين ورفضها في الوقت الذي كان يستدين من الغير، كان يتحلى بالايمان والاخلاص والاستمرارية، ان غسان كان شعبا في رجل، كان قضية وكان وطناً.
قال الشاعر محمود درويش عن غسان كنفاني "كان الفلسطيني الوحيد الذي أعطى الجواب القاطع الساطع، وكانت الشهادة شهادة، وكأنه أحد النادرين الذين اعطوا الحبر زخم الدم، وفي وسعنا ان نقول ان غسان قد نقل الحبر الى مرتبة الشرف واعطاه قيمة الدم، كان غسان كنفاني يعرف لماذا يكتب ولمن يكتب ولكنه كان يعرف ايضاً ان قيمة هاتين المسألتين مشروطة لانتاج الفن باتقان تطبيق المسألة الاخرى كيف يكتب".
لقد فتح نافذة العالم على القضية الفلسطينية، وبعدها على الحركة الفدائية، من خلال مجلة الهدف الناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حيث كان رئيس تحريرها، وكان مقرها محجا لمئات الصحافيين والمحللين السياسيين الاجانب، كما استطاع غسان اقامة علاقات نضالية ثابتة وناجحة مع جميع حركات التحرر في العالم. وكان غسان كاتبا محترفاً، وكان في كتاباته الصحفية الاسبوعية او اليومية شديد الخصوصية والتمييز والاتقان، كان رشيقا ومتوتراً كغزال يبشر بزلزال، كما وصفه محمود درويش، كان انتاجه على الصعيدين الاعلامي والسياسي متميزا بقوة الاقناع وحرارة العاطفة وعنف الالتزام، لقد جمع بين النضال والصحافة والكتابة والفن.
لقد سقط غسان كنفاني في ميدان الصراع، سقط وهو يسيطر على موقعه الكتابي، لقد اغتاله الموساد لأنه حمل فاعلية الكتابة التي صنعت جيلاً قادراً على التغيير، كان يتمتع بقدرته النادرة على العمل، كان كاتبا مناضلاً، لقد حقق في كتاباته الاسطورة، كان ثوريا صادقا، هذا النوع النادر بين الرجال وحتى بين الثوريين، وقد ادركت اسرائيل ان هذا النوع أخطر الانواع، فلا شيء يجدي معه، لا الارهاب ولا التهديد، لقد استقطب الكثير من الصحافيين العالميين ومن المحللين السياسيين، لقد اعتبره الموساد خطرا على اسرائيل من خلال الكلمة والتعلم، ارادوا التخلص منه فقتلوه.
وبقتلهم غسان كانوا يستهدفون القلم الشريف. لقد استشهد غسان في 8/7/1972 في بيروت حيث اغتاله الموساد بتفجير سيارته. لقد كتب الكثيرون عن غسان، كتب عنه الفلسطينيون وكتب عنه العرب والاجانب، وترجمت بعض قصصه الى اللغات الاجنبية، لكن الكتابة عن غسان لا ولن تتوقف لان غسان ظاهرة غير عادية فكان الثائر والمناضل والأديب والسياسي والرسام والقصصي والمسرحي والناقد والروائي، وجميع هذه الصفات تجمعت في غسان كنفاني، في ذكرى استشهادك يا غسان نتذكر جميع الشهداء عربا وفلسطينيين الذين ضحوا من اجل فلسطين، ولا تزال قوافل الشهداء مستمرة حتى تتحقق اهداف شعب فلسطين في العودة وتقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.


عائد إلى حيفا.. عائد إلى بغداد
----------------------------------
عبد السلام العطاري

بين غسان كنفاني والوطن حالة عشق وحكاية طويلة ،خبأتها حبة برتقال يافاوية واكتست من لونها حبة زيتون مزروعة في تلال وجبال نابلس تعانق الشمس وتشرب من عين الحقيقة ومن جداول تستحم في انهار الوطن ،حكاية يرددها الحصّادون على البيادر في ليلة فلسطينية عاشقة لموسم الحصاد.

حين تجلت روعة كنفاني بروايته عائد الى حيفا كان الحلم الطويل الذي داعب غسان طوال رحلة الشقاء ورحلة التهجير والتشريد ورحلة اللاعودة إلى الجغرافيا والعودة الى وطن الحلم وبقاء وطن الحقيقة على مذبح الحرية يسجل روايته بالدم وبالتضحية .

غسان وغيره ممن كتبوا في الأدب المقاوم ،الأدب الذي حرك الثورة بقدر ما كانت الثورة تحترق على طريق العودة وعلى طريق الرغبة بالخلاص ليكون وطن الحقيقة هو ذاته الشمس التي تلاقح الأرض المتعطشة للحرث كي تنبت سنابل القمح على يد أهلها وليكون الزعتر الفلسطيني نار تحرق من لا يقدر على طعمه. هكذا كان الوطن المحتل وهكذا كان القلم وهكذا كانت ومزالت طريق الحرية المعبدة بالأشواك وبالأسلاك الشائكة .

قدرنا ان تكون هناك حيفا المحتلة لنكتب عنها ويكتب غسان عائدته الى حيفا،قدرنا ان تكون فلسطين رباط للجهاد، وللنضال وقدرنا ان يكون صراعنا ليس فقط على حدود كما يظن البعض بقدر ما هو صراع تاريخ ووجود ودين ... لذلك كان أدب المقاومة الفلسطينية، وكان أدباء المقاومة، وأقلام محرّضة على الثورة وعلى الاستمرار بالمقاومة .

والسؤال هنا من سيكتب رواية عائد الى بغداد؟!ومن سيكون كنفاني العراق ؟! ولماذا فرض على بغداد ان يكون هناك من يكتب لها ،إن وجد ؟! ومن رغب بأن يكون للعراق غسانه؟! حيث كنا نكتب للوطن المحتل لحيفا ويافا والرملة والقدس وغزة من بغداد ، وننشد للوطن المحتل من بغداد ونهتف للقدس في شوارع بغداد !،والحكمة كما قيلت إن أردت أن تكون شاعرا او كاتبا عليك أن تعرّج على مرابد بغداد الشعرية والادبية ، وان تقف في حضرة عبق التاريخ والحضارة وتستنشق رحيق حروف التاريخ المرصعة في كل زاوية بغدادية و بابلية .

من عائد إلى حيفا...(إلى) إلى عائد بغداد تصبح عين الحقيقة في مربعها الكبير مربع لا يمتلك سوى ان المدن التي تحفل بالمجد وبالتاريخ المجيد مجرد رواية ومجرد حكاية وسنبقى نغني لوطن الحلم والحقيقة وحدها تدفع الثمن ،وأي ثمن؟!!

وما اصعب حين تصبح مدننا حكاية للشعراء ورواية للأدباء فقط حين يكون مهرها الدم دون سواه . ومن بغداد التي كانت تكتب فيها الرواية الى بغداد التي اصبحت هي الرواية والحكاية تكون الصورة الكاملة تحتاج الى دمشق .


رجلٌ تحت الشمس يُدعى غسان كنفاني
الموت باعتباره كاتباً خفياً
----------------------------------------

إلياس خوري

في الثامن من تموز، 1972 اغتيل غسان كنفاني في الحازمية، ضاحية بيروت الشرقية، حيث كان يقيم. انفجرت سيارته بعدما استقلها والى جانبه ابنة شقيقته لميس، وتطايرت أجزاؤها ومعها تحولت جثة الكاتب أشلاء وشظايا. ثلاثون عاماً مرت على الاغتيال ولا يزال الموت الفلسطيني هو الكاتب الخفي الذي يصوغ صورة المأساة المستمرة.
لم يكن كنفاني سوى حلقة من الموت الفلسطيني الكثير الذي غطى تاريخ المنطقة منذ بدء الغزوة الصهيونية واكتسابها شرعية دولية مع وعد بلفور الذي رسم سياسة الانتداب البريطاني على فلسطين.
هذا اللاجىء من عكا الى دمشق فالكويت فبيروت، لم يكن الكاتب الفلسطيني الأول الذي يسقط في المقاومة. فذكرى عبد الرحيم محمود، الشاعر الفارس الشهيد، كانت قد صارت جزءاً من ذاكرة فلسطينية تصنعها النكبة.
لكن اغتيال كنفاني اخذ شكل القتل الرمزي، وبه افتتحت إسرائيل سياستها المركزية مع الجسد الفلسطيني، فصار قتل القادة والمناضلين الفلسطينيين أشبه بطقس رمزي، يسعى ليس الى قتل الشخص المحدد فقط، بل الى قتل الفكرة الفلسطينية.
عندما اغتيل كنفاني في بيروت عام، 1972 اعتبر الكثيرون هذا العمل محض اغتيال سياسي، إما تحويل جسد الكاتب أشلاء فلم يكن مقصوداً في ذاته. اذ ان الهدف هو قتل الكاتب والمناضل الذي كان يترأس تحرير أسبوعية "الهدف" الناطقة باسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".
لكن الشاعر الفلسطيني كمال ناصر كان له رأي آخر. روى محمود درويش ان كمال ناصر جاءه غاضباً، بعدما نشر درويش مقالاً في "الملحق" يرثي فيه كنفاني، وسأله: "ماذا ستكتب عن موتي، بعدما كتبت كل شيء عن غسان؟".
ضحك محمود درويش يومذاك من "النرجسية" الفلسطينية المرتبطة بالموت، ونسي الحكاية، الى ان قُتل كمال ناصر بعد تسعة أشهر من اغتيال كنفاني. ففي العاشر من نيسان، 1973 تسللت وحدة كوماندوس إسرائيلية الى بيروت، واغتالت ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية، كمال عدوان ومحمد يوسف النجار، عضوي اللجنة المركزية في حركة "فتح" وكمال ناصر الناطق الرسمي باسم منظمة التحرير الفلسطينية.
أمام جسد كمال ناصر المدمّى، أصيب الناس بالذهول. اذ لم يكتفِ الإسرائيليون بقتل الشاعر الفلسطيني رمياً بالرصاص، بل القوه أرضا على ظهره، يداه مصلوبتان، وهناك رصاصة في فمه.
يومذاك اتضحت دلالة الرمز في الموت الفلسطيني. كاتب "رجال في الشمس"، تمزق أشلاء وتطايرت أعضاؤه، والشاعر الناطق، أُخرس برصاصة في فمه، وصُلب على الأرض.
نشر محمود درويش رثاءه لكمال ناصر في قصيدة العرس الفلسطيني: "طوبى لشيء لم يصل"، ثم جاءت التقارير الإسرائيلية لتشير الى ان قائد عملية الاغتيال هو ضابط إسرائيلي يدعى أيهودا باراك، تسلل مع مجموعة كوماندوس في الجيش الإسرائيلي الى بيروت، متنكراً في زي امرأة تضع على رأسها باروكة شقراء.
"هذا هو العرس الذي لا ينتهي
في ساحة لا تنتهي
في ليلة لا تنتهي
هذا هو العرس الفلسطيني
لا يصل الحبيب الى الحبيب
إلا شهيداً أو شريداً".
قرأ محمود درويش اغتيال الشاعر الفلسطيني ورفيقيه، في سياق "عرس الدم" الفلسطيني الذي يجعل العاشق شهيداً، متابعاً بذلك تراث شعر الحب عند العرب الذي أوصله الشاعر الأموي جميل بثينة الى الشهادة: "لكل لقاء نلتقيه بشاشة/ وكل قتيل عندهن شهيد".
غير ان الصور الفوتوغرافية التي نشرتها صحف بيروت لكمال ناصر شهيداً، قدمت قراءة رمزية أخرى للاغتيال. فالشاعر الذي عمل ناطقاً رسمياً باسم منظمة التحرير أخرسته رصاصة في فمه. والفلسطيني المسيحي صُلب على الأرض وليس على الخشبة، والرسالة الإسرائيلية تبحث ليس عن القتل فقط بل عن القتل الرمزي.
اتخذت الاغتيالات ومحاولات الاغتيال طابعاً رمزياً صارخاً، بعد هذين الاغتيالين الكبيرين: أنيس صابغ، مدير مركز الأبحاث الفلسطيني، انفجرت عبوة ناسفة في يده وعينيه. الكاتب والباحث يجب ان تُشلّ يداه ويفقد البصر. والرجل الذي خلف كنفاني في رئاسة تحرير "الهدف"، بسام أبو شريف، انفجرت فيه عبوة مشابهة. وائل زعيتر قُتل في روما. ومحمود الهمشري وعز الدين القلق قُتلا في باريس. واللائحة تطول لتتوَّج في النهاية بخليل الوزير (أبو جهاد)، ثم تتخذ أبعادا جديدة عبر سياسة القتل العمد التي اتبعها الجيش الإسرائيلي في مواجهة انتفاضة الأقصى، حيث استخدمت الصواريخ التي ترميها المروحيات في الاغتيال بدءاً بالأمين العام ل"الجبهة الشعبية" أبو علي مصطفى، الى ما لا نهاية له من المناضلين.
كأن إسرائيل تخوض مع الشعب الفلسطيني معركة رمزية، الى جانب معركتها السياسية - العسكرية. الهدف هو محو الرمز الفلسطيني، وإحلال رمز مكان رمز. لكن السياسة الإسرائيلية صنعت من دون ان تدري ربما، مخزوناً رمزياً فلسطينياً جديداً، فصار الرمز اكبر من وعائه الأدبي، ولم ينحصر بالموت وحده، بل امتد الى حقول متنوعة، ربما كان مشهد الأسرى والمعتقلين هو الأكثر دلالة: العيون المعصوبة، الأيدي والأرجل المكبلة، الأجساد التي تُجبَر على التعري، الركوع... وهنا تأتي صورة مروان البرغوثي، أمين سر حركة "فتح" في الضفة الغربية، لتحتل مكانها الرمزي، في وصفها تجسيداً للفلسطيني المقاوم.
كان اغتيال غسان كنفاني، بداية الموت الفلسطيني الرمزي، اذ صار جسد الكاتب استعارة لأرضه، وصارت أشلاؤه صورة عن أشلاء شعب ممزق، وصار قبره صورة عن المنفى، حيث لا يستطيع الفلسطيني ان يجد لنفسه قبراً!
في حقل الموت تخوض الدولة العبرية أكثر معاركها الرمزية شراسة ضد الوجود الفلسطيني، فالمعركة التي قادت الحركة الصهيونية الى الاستيلاء على التاريخ والأرض والفولكلور والمطبخ والعمارة، لن يُكتب لها النصر إلا في حقل الموت الرمزي، عبر فرض المنفى الكامل على السكان الأصليين الذين يعيشون في بلادهم.

المقاومة بالرمز
لم تكتفِ "حرب الاستقلال"، وهذا هو الاسم الذي يطلقه الإسرائيليون على النكبة الفلسطينية، بطرد سكان فلسطين بالقوة، بل قامت بإحداث تغييرات جذرية على المشهد الريفي الفلسطيني، عبر تدمير القرى الفارغة من سكانها، وعبر زراعة ملايين أشجار السرو من أجل حجب الجريمة، وتغيير معالم البلاد، التي حوّلت الزيتون رمزاً. إضافة الى ذلك، فقد شهدت الأعوام الأولى لتأسيس دولة إسرائيل حمّى اركيولوجية، حولت مواطني الدولة علماء آثار، بحثاً عن مبررات "تاريخية" تدعم أسطورة أرض الميعاد التوراتية. واذا كانت الحمّى الاركيولوجية لم تصل الى أي نتائج، بحسب المؤرخ كمال الصليبي، فإن عملية الاستيلاء على الرموز الفلسطينية اتخذت حجماً كبيراً في ميادين الفولكلور والعمارة والمطبخ، فتمّ تسويق هذه العناصر الثلاثة في العالم بأسره، في وصفها خصوصيات إسرائيلية. ولقد أوضح الكاتب الفلسطيني انطون شماس في بحثه عن الفلافل، المدى الذي يمكن ان يصل إليه الاستيلاء الإسرائيلي على تاريخ الآخرين وأنماط عيشهم. وفي المقابل، أتت شهادة عين حوض التي حوّلها المعماري الإسرائيلي مارسيل يانكو قرية للفنانين الإسرائيليين، بعد طرد سكانها منها، لتقدم العمارة الريفية الفلسطينية كأنها خصيصة معمارية إسرائيلية، مثلما تحولت البيوت العربية في أحياء الطالبية والقطمون في القدس الغربية كيتشاً ثقافياً إسرائيليا. المنفى الذي صنعته إسرائيل للشعب الفلسطيني، يحمل هذه السمة. اذ لم يكتف الإسرائيليون بتدمير القرى واحتلال البيوت واقتلاع الأشجار من أجل بناء الغابات، بل قاموا أيضا بنفي الوجود المادي للشعب الفلسطيني، واستولوا على عناصر كثيرة من تراثه.
يقدّم الأدب الإسرائيلي لجيل الدولة، وخصوصاً في أعمال كل من عاموس عوز، "ميخائيل وحنة"، وأ. ب. يهوشع، "في مواجهة الغابات" و"العاشق"، نماذج من هذا النفي. ففي حين ترسم تهويمات حنة في رواية عوز عن التوأمين العربيين المغتصبين، صورة الفلسطيني في وصفه بدوياً، تقدّم حكاية الطالب الإسرائيلي الذي يذهب الى الغابة من أجل دراسة الحروب الصليبية، في قصة يهوشع، صورة الفلسطيني الأخرس، الذي يحرق غابة زُرعت من أجل محو قريته.
الفلسطيني غائب، ليس في السياسة فقط بل وفي الخيال الأدبي أيضاً. ولن تظهر صورة الفلسطيني إلا بعد احتلال فلسطين كلها عام ،1967 في أعمال روائيين مثل ديفيد غروسمان، وخصوصاً في روايته "ابتسامة الحمل".
لن نقدّم في المقال قراءة أدبية لأعمال غسان كنفاني، بل سنقتصر على تحليل مسألة المقاومة الرمزية، التي افتتحها هذا الكاتب الذي قُتل شاباً في السادسة والثلاثين، والذي جعل من حياته أشبه بالحمّى الأدبية والصحافية والنضالية. كأنه كان يعي دوره التأسيسي في صوغ مجموعة الرموز المضادة، أي في رسم مبنى رمزي - ثقافي، يشكل مرجعاً لمقاومة ثقافية.
تسمح لنا قراءة أدب كنفاني، وجهده النقدي في إطلاق الشعر الآتي من الجليل، أي من التجربة الأدبية التي صنعها المنفى المزدوج للفلسطينيين في إسرائيل، بأن نرسم ملامح الصراع الرمزي الذي خاضه هذا الكاتب من أجل تأسيس البنىة الأولية التي اتسعت بعد ذلك، وخصوصاً في شعر محمود درويش وروايات إميل حبيبي وجبرا ابراهيم جبرا، لتقدم إطارا مرجعياً لسؤال كبير: من هو الفلسطيني؟
لقد تشكل الجواب عن هذا السؤال في مستويين:
المستوى الأول، هو الارتباط بالأرض، والانطلاق من هذا المعطى، لتأسيس علاقة بالمكان.
المستوى الثاني، هو الرد على النفي بالتأكيد، أي الرد على النفي الإسرائيلي لوجود الشعب الفلسطيني، بالانطلاق من المنفى كمعطى لتأكيد الهوية. ولعل ادوارد سعيد كان أول من بلور آليات المنفى كمعطى في تكوين وعي الفلسطيني لذاته. الفلسطيني المنفي، هو المقابل لصورة اليهودي التائه.
يقدّم لنا أدب كنفاني، النمذجة الأولية لسؤال الرمز الفلسطيني. وهي نمذجة سوف يوسّع محمود درويش دائرتها لاحقاً، الى درجة تسمح لنا بالقول ان الجواب الرمزي الفلسطيني تبلور في منفيين:
المنفى الأول، هو بيروت الستينات، التي استقبلت الطليعة الأدبية العربية، وكانت تحمل علامات النهضة الأدبية الثانية، في الشعر الحديث والرواية الوجودية والنقد الجديد والفن التشكيلي.
المنفى الثاني، هو الجليل الذي نجحت تجربة الحزب الشيوعي في إسرائيل، في التحوّل ملجأ قومياً للأقلية الفلسطينية الريفية. ففي حيفا والناصرة، انطلقت حركة أدبية - شعرية اضطلعت بدور أساسي في بلورة الوعي بالذات، ضمن مقتربات غنائية - حديثة، وخصوصاً في الشعر.
كنفاني في بيروت، صار أشبه بالحالة الأدبية الكبرى. ففي إنتاجه الأدبي الغزير واكب الوعي الفلسطيني عبر صوغه أعمالاً سردية حديثة، أخذت على نفسها مهمة كتابة فجوات الذاكرة، ليس من أجل الذاكرة نفسها، بل من أجل بلورة صورة الذات.
هكذا نجد في هذا الأدب الملامح الأولى لمن هو الفلسطيني. ان نمذجتنا لهذه الملامح هي اقتراح أولي، في حاجة الى إعادة نظر من أجل ان يتم استكماله. لكننا سوف نغامر في هذا المقال، ونقدم طرحاً يتألف من سبعة عناصر:
الأرض: نجد الكيفية التي ستتحول من خلالها الأرض استعارة للمرأة: الأم والحبيبة، كما ستتحول المرأة استعارة للأرض، في أولى روايات كنفاني، "رجال في الشمس"، حيث سنقرأ في البداية وصف أبو قيس للأرض في اعتبارها امرأة، ولرائحتها التي تشبه رائحة امرأة تخرج من الحمّام، ولنبضها الذي يشبه نبض العصفور.
الأرض كاستعارة مزدوجة: الأرض - المرأة، الأرض - الرحم، سوف تحتل مساحة كبرى في الأدب الفلسطيني، من وديع عساف بطل "السفينة" لجبرا، الى "قصيدة الأرض" التي كتبها محمود درويش في ذكرى انتفاضة يوم الأرض.
كلمة الأرض، سوف تأخذ بعداً سياسياً وأدبياً. في السياسة ستصير اسماً لانتفاضة الفلسطينيين في إسرائيل ضد مصادرة الأراضي، وفي الأدب ستحتل مكانة مقدسة، وستمتزج بالمرأة، فتحتل الاستعارة والكناية حجماً كبيراً في وعي الذات لنفسها.
الطبيعة: يتخذ هذا العنصر نقطة تمركزه في شجرتين هما البرتقال والزيتون. أولى مجموعة كنفاني القصصية تحمل اسم "ارض البرتقال الحزين". رمز البرتقال هو أحد الرموز الأساسية التي استولت عليها إسرائيل، لكنه يحتل في أدب كنفاني موقع استعادة الرمز من جديد. وفي المقابل يأتي الأدب الريفي من الجليل، ليتمسك بالزيتون في وصفه رمزاً حياتياً - ثقافياً. حول هاتين الشجرتين، بنى الأدب الفلسطيني تصوراً كاملاً عن معنى الهوية المرتبط بالأرض. فإذا كان الفلسطيني قد نزح من الأرض، فإن الأشجار لا تنزح، وهي تشكل في ذلك علامة ثابتة على الوجود.
الفدائي: اللاجىء يتحول فدائياً. أليست هذه هي الرسالة التي لم يكتبها سعيد س. بطل "عائد الى حيفا"، الى ابنه خالد؟ صورة اللاجىء التي احتلت المدى الشعري والأدبي بعد النكبة، وخصوصاً في أعمال راشد حسين، وفي الكثير من قصص كنفاني، تخلي الساحة لصورة جديدة هي صورة الفدائي المقاتل التي سوف تفتتح "العرس" الفلسطيني، أي فكرة الشهيد، وتفرد لها مساحة كبيرة في الأدب الفلسطيني.
الأم: صحيح ان الأرض صارت استعارة للمرأة، لكن رواية "أم سعد" بتأثيراتها الواقعية الاشتراكية (أم غوركي)، ستقدم صورة جديدة للأم الفلسطينية. فالأم التي تعيش في مخيم لاجئين قرب بيروت، ستتخذ شكلاً جديداً، وتظهر على الفدائيين الذين تسللوا من الجنوب اللبناني الى فلسطين وتقدّم لهم الطعام. هذه الأم نفسها ستكون رفيقة الشاعر في سجنه (قصيدة "أمي" لدرويش، والأم التي تلتحق بمغارة ابنها في الطنطورة، كما في رواية "المتشائل" لحبيبي).
الآخر - الإسرائيلي: في روايته الثانية، "ما تبقى لكم"، تكون العلاقة بالإسرائيلي - الآخر، مستحيلة. الحوار الوحيد بين الجلاد والضحية هو القتال. غير ان كنفاني سيجري تعديلاً جذرياً على هذا المقترب في رواية "عائد الى حيفا"، حيث يدور حوار حقيقي بين سعيد س. والمرأة الإسرائيلية التي تحتل منزله في حيفا، ثم يصل هذا الحوار الى ذروته التراجيدية حين يلتقي الفلسطيني بابنه خلدون، الذي نسيه في البيت لدى نزوحه من حيفا. خلدون صار جندياً إسرائيليا يحمل اسم دوف، والحوار بين الأب وابن(ه) يتخذ شكل مواجهة حول المعنى.
هذا الإسرائيلي الغائب عن الأدب الفلسطيني، وعن صورة الذات لنفسها، يظهر أيضا، في أدب الأرض المحتلة. فهو في رواية حبيبي يتخذ شكل رجل الشرطة والمخابرات، لكنه سيعرف انقلاباً جذرياً في شعر محمود درويش، "جندي يحلم بالزنابق البيضاء"، أو في صورة المعشوقة المستحيلة التي اسمها ريتا، وأخيراً في صورة الفتاة السمراء التي تسرق مرآة الشاعر في ديوان "لماذا تركت الحصان وحيداً".
الاسم: لم يغب الاسم الفلسطيني عن أدب كنفاني، رغم ان قضية الاسم ستتخذ بعداً كبيراً في الشعر. فالاسم الفلسطيني لم يتعرض للنفي في إسرائيل وحدها، بل تمّ تغييبه عربياً بفعل مجموعة من العوامل المتشابكة: إلحاق الضفة الغربية بالأردن، تخوّف الأنظمة من التسلل الفلسطيني، وغلبة الخطاب القومي العربي. ولم يتخذ الاسم دلالاته الرمزية إلا في الشعر. من قصيدة "سجّل أنا عربي"، التي أعلنت التمسك بالهوية الفلسطينية في فلسطين، والتي اتخذت ببعدها الديموغرافي شكل التحدي ("وأولادي ثمانية، وتاسعهم سيأتي بعد صيف، فهل تغضب"؟)، الى "عاشق من فلسطين"، حيث صار لفظ الاسم الفلسطيني أشبه بتعويذة سحرية من أجل توكيد الهوية.
العاشق: "العاشق" هو اسم رواية لم يستطع كنفاني إنهاءها، فبقيت ناقصة مثل حياة مؤلفها، لكنها أشارت الى حالة تساهم في تحديد الوعي الفلسطيني. عاشق كنفاني، مجنون او ثائر او هو ابن "زمن الاشتباك". موضوع العشق هو الأرض - المرأة، ومساحته هي الرفض والعمل على التغيير. شخصية العاشق سيقوم جبرا ابراهيم جبرا ببلورتها في روايتيه: "السفينة" و"البحث عن وليد مسعود"، فتتم اسطرة الفلسطيني "القائد"، ويصير هو المغيّر والمثقف في العالم العربي. كأن جبرا، من دون وعي ربما، يستعيد صورة اليهودي التائه، المثقف الغني، ويسقطها على بطله الفلسطيني.
هذه العناصر السبعة، لا تغطي الرمز في الأدب الفلسطيني، بل قد لا تغطي جميع العناصر الرمزية في أدب كنفاني نفسه. فأدب كنفاني، تميّز بسمتين بارزتين:
السمة الأولى، هي بنيته الرمزية المختصرة، التي جعلت من رواياته، أشبه بقصص قصيرة - طويلة. أي أنها تحافظ على بنية القصة القصيرة من حيث وحدة الحدث فيها ("رجال في الشمس" و"عائد الى حيفا")، أو تتشكل في متواليات قصصية (أم سعد).
لم تكتفِ هذه السمة ببناء المرجعيات الرمزية للهوية، بل استنبطت أيضاً وعاء رمزياً محكماً لهذه المرجعيات. فالرمز يفترس المقدمة. كأن كنفاني كان يبحث عن مقترب لكسر البديهية الفلسطينية، وتحويلها رموزاً مكتوبة. البديهة لا تحتاج الى كتابة لأنها موجودة في الشفهي، أما الرمز فلا يتأسس إلا في بنية سردية أو شعرية.
السمة الثانية، هي الصرخة.
كنفاني كان يصرخ بالألم والحلم. أذكر اني حين قرأت "رجال في الشمس" للمرة الأولى بعيد صدورها، أحسست ان حرارة الشمس والقيظ لا تقتل الفلسطينيين الثلاثة فقط، بل تنتشر في مسامي، وتدفعني الى ما يشبه الصراخ. ربما كان قدر المؤسسين في الثقافة المقاومة، ان يبقوا في حدود الرمز، ويجمعوا بدايات الحكايات وليس الحكايات نفسها. اذ أننا لا نكاد نعثر من تجربة النكبة سوى على صفحات قليلة من روايات كنفاني وقصصه. كان الكاتب معنياً ببلورة الكلمات في وصفها سلاحاً للبقاء والفعل في آن واحد. لذا اكتفى من الأدب بالتقاط الملامح الأولى.

الموت الرمزي والموت الواقعي

لم يستطع أدب كنفاني تجاوز عتبة الرمز، لأن المؤلف نفسه صار رمزاً، ولم يترك له قاتله فسحة من الزمن تسمح له بأن يقترب من عملية بناء الرمز وتفكيكه، وهي عملية نجد بذرتها في رواية "الأعمى والأطرش" التي بقيت ناقصة أيضاً.
من كنفاني الى حبيبي وجبرا ودرويش وشماس، استطاع الأدب الفلسطيني تأسيس صورة لوطن من الكلمات والرؤى والأحلام والذاكرة. ولقد تشكلت هذه الصورة في المنفى المزدوج، أي في العالم العربي والجليل. والصورة محكومة بصراع رمزي على الوجود. من يكتب الحكاية؟ هذا هو السؤال الذي يهيمن على الصراع المستمر في فلسطين منذ أكثر من نصف قرن؟
غير ان الموت الفلسطيني بدأ يتخذ شكلاً آخر في الانتفاضتين. فالرموز هنا صارت مكوِّناً للهوية ولم تعد بحثاً عنها، وبذلك اتخذت صورة أخرى، فأجبرت الرمز على التخلي عن دلالاته البدائية، أي عن بنيته الكنائية. الكوفية أو الحجر أو الشهيد، صارت جزءاً من حياة يومية، يعيشها السكان الأصليون على أرض بلادهم، وليس في المنافي. حتى المخيم الفلسطيني في جنين او غزة او بيت لحم، اتخذ بعداً يتجاوز القرى التي طُرد منها السكان، كي يصير وحدة في ذاتها، ذاكرتها جزء من حاضرها، وليست بديلاً منه. وهذا ينعكس في شكل واضح على الخطابين السياسي والأدبي، ويعلن ولادة لحظة تغيّر، لا تزال ملامحها غير واضحة، لكنها تقود الى بناء رؤية لفلسطين - الوطن، تضم في داخلها مقولة فلسطين الشتات لكنها تتحرر منها في الآن نفسه.
غير ان هذا التطور الكبير لن يتبلور إلا إذا استطاع الشعب الفلسطيني نيل استقلال دولته وسيادته. وهذه مسألة دونها الأهوال. فالسياسة الإسرائيلية التي تجسدها حكومة الوحدة الوطنية الشارونية، لا تزال تدور في حلقة "حرب الاستقلال"، أي لا تزال تسعى الى أحداث نكبة فلسطينية جديدة، يجسّدها نظام فصل عنصري يطلق عليه الرئيس الاميركي اسم الدولة المؤقتة. الممارسات الإسرائيلية اليوم، تعيد لغة الرمز الى بداياتها، والترميز هنا هو محاولة لاستبدال الكلمات بالمعاني، فالكلمة تحجب المعنى ولا تشير إليه، والصورة تشوّه الحقيقة ولا تسعى الى اكتشافها. عادت مصطلحات الإرهاب والتخريب لتحتل اللغة العبرية في وصفها للفلسطينيين، بل دخل مصطلحان جديدان لوصف الاحتلال: المكبس واللحاف، وهما كنايتان بذيئتان عن قرار إعادة احتلال المدن الفلسطينية، ويستخدمهما كبار الضباط الإسرائيليين الآن كمصطلحين عسكريين. وتم تحطيم كل الحرمات: منع تجول دائم، اصطياد سيارات الإسعاف، تدمير البيوت على سكانها، جرف الأشجار المثمرة وأخيراً بناء سياج او جدار الفصل، الذي سيحوّل المناطق المأهولة بالسكان الى أقفاص.
الشعب الفلسطيني هو اليوم أمام امتحان نهاية مرحلة كاملة من تاريخه، أي انه أمام امتحان بداية جديدة.
لكن البداية هذه المرة لن تكون في فراغ. فلقد سال دم كثير وحبر كثير، ومن مزيج الدم والحبر وُلدت حكاية ورُسمت صورة وتشكلت هوية. البداية الجديدة ستُبنى على البداية الأولى التي صنعها جيل غسان كنفاني. فالنص الفلسطيني صار اليوم أرضا ثانية تحمي الأرض التي يدور حولها الصراع، وتعطيها تاريخاً وشخصية واحتمالات نمو.
عندما قتلت المخابرات الإسرائيلية غسان كنفاني في بيروت، وتمزق جسده أشلاء متناثرة، تحوّل الموت كاتباً خفياً يشاركنا مائدة الكلمات وأفق البحث عن الحرية.


أمام المرآة إلى غسان كنفاني
------------------------------

د.فاروق مواسي

لم تكن بعيدة عنه ، مستلقية بوضع يثير شهيته ، تبدى من ساقها البيضاء جزء يجذب النظر ، كانت قد فرغت من القراءة ، وأرخت أجفانها مستسلمة لهدأة طويلة ، فتوترت أعصابه ، وسمع صوت نبضه .
دخل إلى الغرفة القريبة ، نزع عنه ثيابه ، ثم قرأ الفاتحة وبعض السور القصيرة :
" إذا قرأت سورة الصمد مائة مرة يطلع لك ولي صالح يلي طلباتك وسعده بين يديك " .
ولكنه لم يقرأ السورة إلا ثلاث مرات ، فإذا بثلاثة أولاد يخرجون من الأرض .
- أنت معلم ، علمنا الحساب " !
- لا أتقنه .
- علمنا اللغة العربية ، قواعد ، شعر ...
صفع الأول كفًا ، وركل الثاني برجله ، وضرب الثالث بعنف ،و قعد يدخن. وبعد أن لبس ثيابه عاد ليراقب الفتاة النائمة .
دنا منها بحذر وعلى رؤوس أصابعه .
فتح الراديو ، وأخذ يستمع إلى أخبار فيتنام ... درجات الحرارة المتوقعة ...
لا حاجة .
أغلق الراديو واستمع إلى صوت أخر :
- تعالي إلى شاطئ البحر .
- إن رافقتك هل تُرْكِبُني زورقًا ؟
- نعم . أي زورق ، سنتجول حتى جزيرة قبرص .
ندّت عنها سعلة على أثرها أنطلق إلى المراَة . أخرج لسانه ووقف ينعم النظر في سحنته الغربية ، رسمها بأشكال مختلفة : مبتسمة ، مكشرة ، هازئة ، وكيف تنفرج البسمة إلى ضحكة تطلق بصوت عال .
واختلطت القهقهة بصوت الولد الذي يبكي بعد أن صفع ز
افتقد الولد الثاني الذي ركله في الموضع المناسب ، فقد تسلق هذا على ظهره ، وألقى بيده حول رقبته .
- إني أريد أن أتعلم .
- دعني أسمع أخبارًا .
لن تسمع شيئًا ، والأخبار تعاد للمرة الثامنة .
تناول قرص إسبرين ، وألصقه على جبهته .
لم تتغير الدنيا .
رأى في المرآة عمال المدينة يسيرون في الموعد نفسه ، ويلتقون في المساء مع عشيقاتهم ، يعِدوهن بالزواج ، ويقذفون دموعهم البيضاء بين نهودهن .
يُقتل أبو فايز .
يقتل والجماعة تمارس الرذيلة ، ولا يكلف الواحد منهم أن ينظر إلى مرآة نفسه .
عندما جاء أبو فايز إلى القرية كانت أم مسعود لا تتقن " لخّ " العجين ، وأبو مسعود لا يتقن مضاجعتها .
ومع لك فقد اختار ليلة باردة وكان حزينًا . دنا من أم مسعود ، ولم يبال
بنصيحة مسعود أن يؤجل المسالة ، ولم يبال بصرخة مسعود :
- يا أبي لماذا تنجب جبانًا ؟
ضحك أبو مسعود وقذفه حتى يضبط الحساب ، ويولد مسعود في تشرين مجنيًا عليه . جاء أبو فايز إلى القرية بعد العشاء بقليل ، والسراج مطفًا ومّر على كل الدور ، غنى مسعود لأمه : " يمه اندهي له ، حبي مرق من هين ، وأنا أحكي له بس أطلعي بره " .
اضطجعت النائمة على جانب جديد ، بدا الشكل مغريًا أكثر : شفتان لا حاجة لوصفهما أكثر من أنهما تدعوان إلى طعام خاص ...كل ما في الأمر أن المرآة كانت تنظر إليه هذه المرة .
أخرجت المرآة أوراقها وجعلت تقرأ .
وتعلم الولد الذي كف عن البكاء : راس ، روس ، دار ، دور .
لا راس ولا دار بعد اليوم .
تصورْ أن تكون جثة بلا رأس ، شخصًا بلا دار ، وريقك جف ولا تشرب سوسًا ، ويقال لك " قم عن الأكل وبك خصاصة " ويحفظ الولد (إذا زلزلت الأرض زلزالها ) . فيقول الإنسان (مالها ؟؟؟!) متلهفًا قبل إتمام الآيات والجواب :
( إن ربك أوحى لها ) .
(يومئذ يصدر الناس أشتاتًا ليًُرَوا أعمالهم ) .
والذي أوحى يعرف قطعًاَ أنهم صدروا أشتاتًا قبل أن تُحْرج الأرض أثقالها ، وهو يعرف أن أبا فايز عندما مر وحيّا من أثقالها ، وهو يعرف أن أبا فايز عندما مر وحيّا من بعيد أو قريب لم يحفل به أحد ، والرب لم يحتمل هذا التعبير " شريك له " إلاّ في حالة واحدة : عندما اشترك مع أبي فايز في مشروع السنوات العشرين .
تقلبت النائمة بشكل أجمل ، نفر الآن صدرها العامر الأبيض . وعندما دنا منها أكثر ضغط الولد – الذي ما زال متعلقًا على ظهره – على حلقومه .
- قومي نرقص .
- يا الله ، ولكن احضنّي بقسوة ، وبعد ذلك تلقمني ، تشربني ، سنرقص ، وها
يدي على خاصرتك ، والثانية على كتفك .
الأنوار انطفأت ، الموسيقى صارخة ، الفم يتجول في مناطق أوربية جديدة ، مكث طويلاً في سويسرة ، تسلق أدغال المناطق الشمالية ، وامتص رحيق أزهار ضفاف الراين .
لم يكن أبو فايز جاهلاً بالشرَك ، كان يتوقعه يومًا يومًا ، كان يعرف أنه لا بد من أن يقتل . قبّل فايزًا واحتضنه وأوصاه خيرًا : أن يطيع المعلم ، ويحترم أمه ، ولا يضرب أخته ، وأن يجتهد ، ومضى .
صَحَت من نومها ، قالت : " لا إله إلاّ الله " ورسمت الصليب في الهواء ، وسلّمت وقالت " يا أبانا يسوع " ، بينما كان هو يحك رأسه ويستمع إلى الأخبار : انسحاب همفري من قائمة المرشحين .
محاكمة الياباني .
لسعته نحلة في أذنه ، سب الدين بلا شعور ، وعلى أثرها غضبت الفتاة و ... الله يلعنك ...
- استغفر الله .
من هذا الولد الراكب على ظهرك ؟
هذا جحش لم يفارقني ، يدّعي أنه ابني . أقول له : يا جحش انزل ، يهددني بالخنق . يذكرني بقصة العلجوم في كليلة ودمنة .
أعجبت الفتاة بالصبي الجحش وأغرته ، وبعد لحظات كان في طيات اللحم يلعق بطنها وظهرها ، وينقل لها أخبار الجسم أولاً بأول : بض ، غض ، له رائحة كل دقيقة بلون بطعم ........ فاكهة .
عندما أدار أبو فايز يده نحو اليمين افتقد يده ، اشتعلت الدنيا لحظة ، واللحم الشهي يلعقه طفل .
المنافسة غريبة .
مرة في شاطئ البحر كانت سائحتان ، وكان معه صبي في الثالثة عشرة ، انفرد كل منهما بسائحة ، وانشغل هو في الحديث عن الاقتصاد والاجتماع وقضايا السياسة ، وانشغل الصبي بها .
كانت المرآة قد اسودت في هذه الأثناء ، وأوراقها تبعثرت ، وكان الولد قد أتقن القراءة والكتابة وأخذ يطالب بالزواج .
- هل تدري لماذا قتل أبو فايز ؟
- لأن النساء تهالكن عليه في ليلة صيف. ولأن الحروف عرفت أن بقاءها معه هلاك .
والولد الأول ما زال ينهب اللذات من حضن أميرته .
والثاني يفرز قيحًا .
وأبو فايز في المرآة ، يده كانت أطول من السماء . كانت على ظهر الحائط تحتضن عشبتين متعانقتين . تحتضن دارًا ، ولا تعرف كيف تقبض عليها ، تتشبث بها ،
ولو أعطوها مجالاً لصافحت كل من في الدار .


غسان كنفاني حارس الحلم الفلسطيني
--------------------------------------
يوسف ضمرة

اقتربت سنوات استشهاده من سنوات عمره التي قضاها على هذه الأرض، حيث استشهد قبل أربع وثلاثين سنةـ في الثامن من تموز لعام 1972ـ ، وعاش ستاً وثلاثين سنة فقط، وما زال النقاد والدارسون والمبدعون والمؤرخون يحاولون استخراج ما ألقى به غسان كنفاني في أعماله وفي دفتر حياته المليء بالكلمات والخطوط الغامضة، حيث تتكشف بين حين وآخر أبعاد جديدة لشخصية غسان، سواء أكان ذلك على المستوى الشخصي، أم على المستوى الإبداعي!

وعلى سبيل المثال، فقد أثارت غادة السمان زوبعة صحراوية عندما كشفت علاقة الحب التي ربطتها بغسان، ونشرت رسائله إليها! كما جهر إلياس خوري بالقول إن كنفاني كان يكذب كي يقول الحقيقة! وهو ما يبدو في ظاهره حكما أخلاقيا.

وبغض النظر عن ردود الأفعال المتشنجة في كلتا الحالين، إلا أن الحالين تكشفان جانبا مشرقا من جوهر غسان كنفاني، يتعلق جزء منه بإنسانية غسان، ويتعلق الآخر بفهمه العميق للإبداع.

ولا أريد الإسهاب في هذا الأمر، فأكتفي بالقول إن غسان كنفاني لم يقدم نفسه قديسا أو واعظاً دينيا أو أخلاقيا، بمقدار ما قدم نفسه شاهدا أمينا ومخلصا، لقضيته الإنسانية الكبرى فلسطين، وللقضايا الإنسانية الأخرى أيا كانت وأينما وجدت. كما ظهر كاشفا الجمرة الثورية من تحت رماد الزمان والوهن. وبالتالي فليس من الغريب أو المعيب أن يحب غسان كنفاني امرأة ما كسواه من الرجال، حتى لو كان متزوجا. ويكفي أن نقول إن غسان تزوج من آني بعد قصة حب جمعتهما أيضا، وكان يمكن لهذه القصة ألا تنتهي بالزواج كغيرها من قصص الحب الكبيرة. أما مسألة الكذب فقد أضاءت مفهوم غسان للعملية الإبداعية، والروائية منها تحديدا، حيث يمكن للكاتب أن يتلاعب في بعض التفاصيل الموضوعية، لخدمة الرؤية الأساسية في العمل الفني، وهو ما فعله غسان فيما يتعلق بالمدة التي كان على رجال الخزان احتمالها تحت شمس الصحراء في صهريج مغلق، حيث تبين أن هذه المدة موضوعيا أقل مما ذكر غسان. ويمكن القول في هذا السياق، إن غسان كنفاني ليس الوحيد الذي يكذب في العملية الإبداعية، طالما كانت الرواية والقصة قائمتين على الإيهام أولا، وقد أشار الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا إلى هذه المسألة في روايته(قصة مايتا) ، حيث يقول الراوي أثناء تحضيراته لكتابة الرواية، ولقاءاته مع بعض أصدقاء الثائر(مايتا) : لن يكون ما سأكتبه هو القصة الواقعية بالفعل، وإنما رواية.. نسخة مختلفة جدا عن الواقع. ولأنني واقعي جدا، أحاول أن أكذب دائما في رواياتي، وأنا أعرف السبب. ـ انتهى ـ . وأنا واثق من أن غسان كنفاني كان يعرف السبب أيضا، وهو أن يصوغ من الواقعة العادية قصة ذات قوة تأثيرية وتعبيرية كبرى، لكي يتمكن من تعميم رؤيته السياسية والاجتماعية والثقافية بكل ما يستطيع من إمكانية إبداعية.

إذاً، فقد عاش غسان كنفاني على جمر الحب والحلم، وهو ما منحه الشهادة الأولى في حياته! حبه فلسطين، وافتخاره بالانتماء إليها تاريخا وشعبا وقضية وطنية إنسانية، هو الذي منحه القدرة على اختزان هذا الحلم الكبير بفلسطين التي يريدها، لا على الطريقة الدونكيشوتية، بل على طريقة الثوار المؤمنين بقضاياهم، والفاعلين فيها.. أي أنه يمكن القول على طريقة غرامشي: كان غسان كنفاني مثقفا عضويا بامتياز! وإذا ما تذكرنا بعض تفاصيل حياته، فلسوف نؤَمّن على مقولة غرامشي، حيث أدار غسان ظهره لحياة شخصية ذاتية كان يمكن لها أن تكون مغايرة تماما، من حيث الثراء المادي، والأمن الشخصي، وتحاشي تلك النهاية التراجيدية التي ميزت استشهاده. ولكن غسان كنفاني، وفي خلال تفاصيل حياته اليومية، حتى من قبل أن يغادر الكويت ويستقر تماما في بيروت ـ عاصمة المقاومة والثورة فلسطينيا وعالميا ـ كان يسير نحو هذه النهاية التراجيدية، ربما وهو واعٍ إلى حد كبير طبيعة هذه النهاية! ولعل رفضه الحماية الشخصية في الآونة الأخيرة بناء على معلومات عن نشاط ملحوظ للموساد في بيروت، يؤكد ما ذهبنا إليه.

إن الكثير مما في حياة غسان وحبه وحلمه واستشهاده، يضعه جنبا إلى جنب مع أبطال الأمم، والتي غالبا ما تخلع على هؤلاء الأبطال ثوبا قدسيا، تتخلله خيوط الطقوس الأسطورية، وهو أمر طبيعي طالما كانت هذه الشخصيات حاملة صلبانها على أكتافها منذ اللحظة الأولى، صاعدة الجلجلة بإكليل الغار لا بإكليل الشوك!

ولا نحتاج لابتداع ملامح أسطورية في حياة غسان واستشهاده، حتى ولو جاءت ولادته بعد استشهاد الشيخ القسّام، وحتى لو تم تقطيع جسده وهو يضحك في صحبة ابنة شقيقته ذاهبا بها إلى عمله اليومي، وحتى وهو يتناول يوميا حقنة الأنسولين للسيطرة على مرض السكري، ليذكرنا بجيفارا الذي قاد بعض المقاتلين في جبال سيرا مايسترا وهو يعاني مرض الربو المنهِك..

يكفي أن نقرأ قصص غسان كنفاني القصيرة، كي نكتشف مقدار الحب العظيم الذي كان يفيض منه نحو البشرية، ومقدار الأسى الذي كان يكابده أمام عذابات الناس البسطاء والمقهورين والمنفيين. ولا نظن أحدا ينسى قصته( موت سرير رقم 12 ) التي يتماهى فيها مع مريض عُماني ـ إذا لم تخنّي الذاكرة ـ ، وكأني به يردد قول الشاعر: وكل غريب للغريب نسيبُ.

لقد كرس غسان جهوده وسخرها لأجل قضيته الإنسانية، من دون أن يتعامل مع الفلسطيني (كسوبر مان) مثلما درجت العادة عند سواه من الكتاب الفلسطينيين. فنرى بعض أبطاله في أوج ضعفهم الذي تعامل معه غسان كحق بشري لا جدال فيه. ونرى آخرين مهزومين أو باحثين عن الخلاص الفردي. ونرى بعضهم وهم يتحركون بفعل الخصاء!

نكتشف في غسان ذلك البعد المعرفي بجوهر الإنسان، وهو ما جنبه الاصطفاف في طابور التنميط الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة، أثناء صعود المقاومة الفلسطينية المسلحة، بل نجد أكثر من ذلك، حيث لا يتناسى غسان تلك الهواجس الإنسانية التي تبدو صغيرة في مظهرها، ولكنه يدرك مدى الأهمية التي تنطوي عليها، منطلقا كما يبدو من رؤية واضحة تؤشر إلى العمل والنضال من أجل تحرير الإنسان الفلسطيني من ذاته المثقلة بإرث جمعي أُسُّه القمع الاجتماعي والسياسي والاستبداد المتعدد الأبعاد، كالكبت الجنسي مثلا في روايته(ما تبقى لكم).

ولا بد من الإشارة هنا إلى تعدد اهتماماته الثقافية والمعرفية، حيث ساهم هذا التعدد في بلورة رؤية واضحة لا في ما يخص القضية الفلسطينية فقط، وإنما في كل ما يتعلق بالحياة ومفرداتها المتعددة. ومن هنا كان قادرا على الكتابة السياسية بشكل دوري، والكتابة النقدية الأدبية، والغوص في التراث الفلسطيني برؤية غير معنية بالتوثيق، بمقدار عنايتها بالحفر العميق في البحث في دينامية تشكل المجتمع الفلسطيني، والمؤثرات الخارجية والداخلية.. الجغرافية والتاريخية والسياسية والاقتصادية التي ساهمت في تشكل هذا المجتمع. ولعل هذه الاهتمامات المتعددة ساهمت في بلورة مشروعه الإبداعي الكبير، والذي وصل إلى ثلاثة مجلدات بين القصة والرواية والمسرحية وهو بعد في منتصف الثلاثينيات من عمره، وهو ما لم يفعله مبدع حقيقي وأصيل آخر في العالم من قبل ـ في حدود معرفتي وقراءاتي ـ !

وعندما نقول ثلاثة مجلدات، فإننا لا نقصد الإشادة بالكمية الكبيرة هذه، طالما كان القراء كلهم يعرفون أن هذه الكتابات لم تكن مجرد تحريض أو دعاية أيدلوجية، بل انطوت على أبعاد جمالية كبرى، تجلت في ابتعاده عن التنميط الذي يصعب تجنبه في كثير من الحالات، وبخاصة حين تدور الكتابات كلها حول محور قضية واحدة وأساسية، ولا أبالغ في القول إن هذه هي إحدى مزاياه الإبداعية العظيمة، حيث استطاع دائما العثور على النموذج الفني لا النمطي، وهو ما تؤكده ذاكرات القراء الذين لا يمكن أن ينسوا( أبو الخيزران) و(أم سعد) مثلا! في الوقت الذي لا يتذكرون أيا من شخصيات كتّاب آخرين تناولوا القضية ذاتها، أو غيرها.

وإذا أردنا البحث عن مبررات لهذه الميزة الإبداعية، وغيرها من الميزات الأخرى، فإننا بالضرورة لن نذهب إلى ما هو أبعد من غسان ذاته، وفهمه للعملية الإبداعية. فهو المنفي من وطنه، والباحث عن مكان أليف يقيم فيه ويستوطنه في غربته المريرة، اكتشف هذا المكان في اللغة، فأقام فيها، وأصبحت بيته الذي يعتني به بكل حرص وعناية، وهو يعرف جيدا أن هذه العناية هي الوسيلة الوحيدة لإقامة آمنة. والإقامة في اللغة لا تعني الاستغناء عن الوطن، بمقدار ما تعني وطنا موازيا قابلا للتحول إلى الوطن الأول.. الحلم القابل باللغة إلى التحقق. ومن هنا فإن الكتابة عند غسان كنفاني لم تكن لتتناسى جمالياتها واحتياجات صاحبها، باعتبار الكتابة مشروعا شخصيا في المقام الأول، على رغم تحوّله إلى مشروع جمعي في التلقي.. أي أن غسان كنفاني لم يكتب انطلاقا من شعوره بوجوده كقيادي عليه واجب الفعل والتنوير، ولكنه كتب انطلاقا من تلمسه الدائم حاجته الإنسانية إلى تحقيق حلم شخصي مشروع، مرتبط بقضية كبرى، الأمر الذي جعل من غسان حارسا أمينا لحلم جماعي حينا، وموقظا الحلم حينا آخر! وما ندركه الآن جيدا، هو أن غسان كنفاني بإقامته الحميمة في اللغة، تمكن من مواصلة القيام بدوره كحارس للحلم الفلسطيني، ولأحلام البشرية كلها، طالما بقي الكون يرزح تحت كل هذا الظلم والاستبداد، وطالما ظل على هذه الأرض أسى مقيم!


تماهي النص بالايقونة
نموذج اسماعيل شموط وغسان كنفاني
-------------------------------------------


نجمة خليل حبيب

لك ان تتصور دهشة فتاة في عمر السذاجة والمراهقة حين يتسنى لها دخول صومعة فنان احبته وزينت جدران غرفتها برسوماته حيث كانت "عروسان على الحدود "آخر ما تنطبق عليه عيناها و"فلسطين على الصليب" أول ما تنفتحان عليه. كان ذلك ايام كان العمل الفلسطيني لا يزال سريا حيث ضمني والفنانة تمام شموط خلية واحدة. كنت يومها أتخيل صاحب هذه الرسوم شيخاً جليلاً بلحية منفوشة وغليون عابق لا ينطفئ ونظرة متعالية ترمق من مقعدها الوثير الواقع وترسمه على مزاجها، إلا انني صدمت عندما رأيت اسماعيل بجسده النحيل، يومها، وتواضعه الذي لا تصنع فيه ونظرته الخجولة، وصدمت أكثر عندما جاء يقدم لرفيقات زوجته القهوة بيديه التي كنت أظن انهما لا تصلحان إلا لحمل الريشة والالوان. انكمشت خجلاً وكدت أذوب في مقعدي، ملت نحو أمي الروحية الاديبة سميرة عزام متسائلة بسذاجة: اهذا هو اسماعيل شموط صاحب عروسان على الحدود وفلسطين على الصليب؟ ظلت سميرة متكئة على عصاها واكتفت بهز رأسها إيجابا. لست أدري لماذا يومها تراءات لي صورة يسوع الناصري وهو يغسل أقدام تلاميذه في خميس الاسرار.

لا ادعي انني قارئة لوحات موهوبة. وأشعر بالاحراج في كثير من الاحيان عندما يدور الحديث حول فنية هذه اللوحة او تلك، إلا انني أمام لوحات اسماعيل أشعر بالارتياح، فهي عندي كتاب أو قصيدة تقرأ بعيداً عن فذلكات المتأولين، وقد تعلمت فيما بعد ان اتثقف على قراءة اسماعيل شموط تماماً كما كنت أتثقف على مقالات غسان كنفاني وشفيق الحوت. ما ان أقف أمام لوحة حتى تأخذني الى رواية او قصة قرأتها لغسان او سميرة أو مقالة لشفيق. وإذ وقفت أول مرة أمام لوحة "الربيع الذي كان" حضرني واضحا قوياً نص سميرة عزام في "وجدانيات فلسطينية" فقد كانت اللوحة هازجة بليغة مؤثرة تأثير النص المكتوب إن لم يكن أكثر. ولطالما جاب في خيالي أطفال كنفاني، من بائع الكعك حميد، الى طفل المنزلق، الى أطفال زمن الاشتباك، في الكثير من أعمال شموط كمثل: :أطفال مخيم الدهيشة"، "وهم أيضاً أطفال" أو "الكمين". وإذ اقول في الكثير فلأن اطفال شموط اقرب الى المفهوم العالمي الكلاسيكي للطفولة: البراءة، الضعف، الاستغلال، والشقاوة البريئة. في حين كان أطفال كنفاني رجالاً كبروا قبل الاوان، فيهم الكذاب (كعك على الرصيف) والمحتال على معاشه (زمن الاشتباك) والثوري الذي يتفوق على الكبار في صموده وشموخه ( كان يوم ذاك طفلاً) والمبدع الخلاق صاحب الرؤيا (المنزلق)

وإذ أن المجال لا يتسع الى استعراض جميع هذه المواقف أو تناول جميع أعمال الفنان وهي كثيرة فساكتفي بنماذج ثلاث علها تفي بالغرض

بين قصة "العروس" ولوحة "القيد"




يتماهى هذان العملان في رؤية واحدة تهدف الى تصوير ما في الشخصية الفلسطينية من عزم وثبات واصرار على المواجهة رغم كل ما في هذه المواجهة من عدم تكافؤ ولامعقولية التي هي على حد تعبير الباحث سامي اليوسف بطولة ترعش بالمأساة. رعشة المأساة هذه نحسها في اصرار صاحب "العروس" على البحث عن بندقيته رغم كل المعوقات التي اعترضته. تابعها وجرى وراءها من معركة الى معركة ومن قرية الى قرية. من الدامون الى شعب الى ترشيحا الى غيرها.....متحديا كل ما لخصمه عليه من تفوق ولم ييأس حتى بعد سقوط كل فلسطين. وهي الرعشة ذاتها في لوحة شموط؛ يقول بها هذا التحفز في وقفة الشاب والعضلات المتوثبة رغم القيود التي تسربل اليدين والرجلين. الخطوة الواسعة التي كأنها لا تعترف بالقيد وتصر على متابعة المسير. الصدر المنفوخ كبرياء والرأس الذي يرفض أن ينحني والذي برفضه هذا يتغلب على قيوده، والشمس المشرقة التي تنير الوجه فكأنها تهزأ بالواقع وتنبئ بتغييره. وقد تماهى النص بالقصة حتى لجهة الصفات الجسدية للبطلين، فصاحب العروس: رجل طويل جدا،ً صلب جداً، يسيرمحنيا بعض الشئ بكفين مفتوحتين متحفزتين وله عينان تنقبان وجوه الناس كأنهما محراثين عتيقين....كان محاطا بما يشبه الضوء. كان محاطا بشيء يشبه الغبار المضيء كما رسمه فنانو عصر النهضة حول جسد الاله وهو يقدم عونه للفقراء. نظرة ولو عابرة تجعلنا نرى ان ما في صفات بطل اللوحة يطابق ما رسمته كلمات الاقصوصة فهو ايضا يحمل صفات إله يوناني. إله الخصب، ربما، لما في ملامحه من فحولة، او الإله سيزيف الذي حمل صخره قدراً لا مناص للهروب منه

رغم كل ما في العملين من تماه، إلا ان المتعة التي يحدثها احدهما عند التلقي لا تغني عن الاخر ولا تلغيه، فان كان النص متعة للخيال فاللوحة متعة للعين ودعوة للخيال ليحلق ويستمتع وينسج على هواه الف معنى ومعنى


"ما تبقى لكم" و "هذا ما بقي"
---------------------------------

رغم تقارب العنوان في كلا الرواية واللوحة إلا ان كل منهما تلتزم برؤية مختلفة. اقرأ في اللوحة، وهو اجتهاد شخصي بحت، قد يخطى وقد يصيب، ملاح غير واضحة، لا تقول صراحة بالغضب او الحياد او الحيرة ورغم ان نظرة العينين وإطباق الشفتين الى الداخل تحيل الى غضب مبهم، ولكنه ليس الغضب الفاعل، فهو إن وجد يبقى غضباً هجيناً، لم يتفلتَ بعد من مرحلة الذهول والانتظار. قد توحي الشفتان المزموتان عزما ما ولكنه عزم غير واضح، فقد غابت عن اللوحة دلائل العزم واتخاذ القرار كأن تكون العينين تتجهان بنظرتهما الى البعيد, أو انحناء الجسم الى الامام او اظهار توتر في وضع الذراعين يشي بالانفعال. أما أن تكون اليدان مضموتين على الشكل الذي هما عليه فانما هو ايحاء بالرضوخ والطاعة لذا تراني أقرأ في اللوحة مجرد عرض حالة، تسجيل موقف، ولك كمتلقي ان تستشف ما وراء هذا الموقف، فخلفية اللوحة تعرض الخسارات ومقدمها يعرض "ما تبقى" هذا الوجه المفتوح على كل الاحتمالات التي لم يشأ الفنان أن يحصرها بواحدة فترك الخيار للمستقبل ليقول كلمته. وهذا برأي المتواضع، إعلاء لقيمة اللوحة الفنية، فهي لا تفرض نفسها ورؤية صاحبها، ولا تتنصب واعظة مبشرة ، ولا هي داعية في المحافل الساسية. هي حسب مقولات النقد الادبي، لوحة مفتوحة النهايات، وسؤالها يحتمل عدة اجابات. هي حالة فنية راقية تطلق العنان للذهن ليس فقط في طرح الاسئلة بل في الاجابة عنها أيضاً

أما حامد، بطل كنفاني في "ما تبقى لكم"، فقد صهرته المرارة، أوصلته الخسارات (خسارة يافا وامه وابيه وشرف اخته) الى حزم امره بعد طول تردد. فأخذ قراره برفض اللجوء والمنفى المتمثلين بالمخيم والتوجه نحو الوطن، جاهزاً لكل ما يستلزمه هذا التوجه من تضحيات. ولأن مجال النص أوسع من مجال اللوحة فقد تمكن الكاتب ان يرسم لحامد شخصية متطورة يزيد عليها او ينقص منها تطور الحدث. فنتعَّرف على حامد الضعيف العاجز طفلاً والغاضب الناقم على عجزه يافعا،ً ثم الشاب الذي انضجته المأساة فعرف طريق خلاصه: واخذ يغوص في الليل مثل كرة من خيوط الصوف مربوط اولها الى بيته في غزة، طوال ستة عشر عاما لفوا فوقه خيطان الصوف حتى تحول الى كرة وهو الان يفكها تاركا نفسه يتدحرج في الليل. ثم نراه خاشعاً أمام خطورة الخطوة التي اتخذها "وقف فجأة. نظر الى السماء فجأة ثم الى ساعته وعرفت الصحراء أنه يفكر مثلهم كلهم . . . ولكنه مثلهم كلهم خاف من الانبساط الى ما لا نهاية . . . ثم نراه يتخطى هذه الرهبة فيسير فجأة، شاباً كما كان دائما مملوءاً بالغيظ والاختناق والحزن. الى ان ينتهي ممتلئاً ثقة بالنفس عند اول مواجهة له مع العدو فقد كشفت له هذه المواجهة مكامن القوة التي كانت غائبة عنه: "كنت مسلحاً بقدرتي على مفاجأته فقط ....وفي اللحظة التي امسكت بها عضديه بكفي وانا اضغط جسدي فوقه، تيقنت انني اقوى منه". الى أن انتهى وقد وضحت رؤيته ووثقت خطوته وصار بوسعه ان ينظر مباشرة الى قرص الشمس معلقا على سطح الافق

أرض البرتقال الحزين وأوديسة الشتات (الى المجهول)


في هذه اللوحة التي تحمل عنوان "إلى المجهول" وقصة "أرض البرتقال الحزين" تكامل لا يخفى على عين. فالنظرات الذاهلة التي ترتسم في عيون الطفلين اللذين على يسار الرسم، ليس إلا رسم بالالوان لما قالته الرواية بالكلمات: مجرد أن أفكر في أنني سأقضي الليل على الرصيف كان يستثير في نفسي شتى المخاوف . . . ولكنه خوف قاسٍ جاف. . . لم يكن أحد على استعداد لان يشفق علي. . . لم أكن استطيع ان اجد بشراً ألتجئ اليه. . . وأن نظرة والدك الصامتة تلقي رعباً جديداً في صدري والبرتقالة في يد أمك تبعث في رأسي النار. نظرة التيه والقلق وحشود الناس هي ذاتها والامهات الملتاعات وحراس الحدود الذين عبر عنهم كنفاني بجيش الانقاذ، هم نفسهم في مؤخرة اللوحة بثيابهم السود ورماحهم المرفوعة في وجه الذاهلين، يحاصرونهم من وراء وأمام ليسدوا طريق الرجوع على من اراده وتوجيه الذاهلين الذين اخذتهم المفاجأة الى حيث يراد لهم التوجه. إلا ان لوحة شموط تفترق عن قصة كنفاني في ان هذه الاخيرة جعل الاب ينهار ويفكر بقتل نفسه وابنائه، فيما جعله شموط السند واليد القوية التي تحضن وتجمع، فحركة الاصابع فوق كتفي الولدين تكاد تنغرس فيهما لدرئ ما يمكن ان يحدثه الشتات من تمزق وفرقة وضياع. ورغم ما في قسمات هذا الاب من اسى وهرم (الاكتاف المحنية والعينين الغائرتين والفمم المزموم) إلا انه يصر ولا يفرط ويستمر في لعب دوره الابوي الذي اوكلته اليه الطبيعة، دور الحامي والمؤازر ودارئ الخطر. وفي حين تغرق "أرض البرتقال الحزين" في الغيبة والجنون فتنتهي والاب يرى خلاصه باشهار مسدس يريد ان يطلقه على نفسه واولاده، يضيئ لوحة شموط خلفية بيضاء رمز التفاؤل والامل بالمستقبل رغم كل السواد الذي يحيطها

ما يلفت في رسومات شموط اصراره على ابقاء المرأة في دورها التقليدي، فهي جميلة دائما في ملمحها وفي قدها. قل أن نرى امراة سمينة او قبيحة. وهي في معظم ما رسم، كي لا أقول كله، إما اماً أو حبيبة او جزءاً من حالة فولكلورية. لقد بحثت طويلا عن امرأة كأم السعد المراة التي تشققت يديها من العمل في تنظيف بيوت الاغنياء، التي تلحق بابنها الى المعركة، أو التي تشارك في المعركة على قدر طاقتها، ولكني لم اجدها. كما أنني بحثت عن "سعاد"، بطلة برقوق نيسان، الرفيقة الملتزمة، المناضلة الندية التي لا يقل ولا يتميز دورها عن دور الرجل فلم ار لها إلا رؤيا ضبابية كأن نستشف بعض تلك الملامح في لوحة

"رنده" أو "وجه فلسطيني"



والجدير بالقول ان تماهي الاعمال الفنية لا يغمط اي من هذه الاعمال حقها ولا يضيع خصوصيتها وأن مقالتي هذه لا تنتصر لعمل على آخر بل تهدف الى لفت الانتباه الى شيء جميل في ثقافتنا الجمعية. فنحن، الفلسطينيين، مهما باعدت بيننا المسافات والاعمار والاجناس الادبية وربما حتى الخلافات العقائدية يظل يجمعنا هم أساسي ورؤية واحدة. ورغم ذلك فنحن لسنا نسخاً كربونية، بل لكل عمل فني عندنا رؤيته وخصوصيته ولا يعيبه ان تماهى او تشابه مع أي عمل آخر

ويبقى اسماعيل شموط الفنان التشكيلي الكبير في فنه، وربما الرائد أيضاً، الذي نذرموهبته وصحته الجسدية في سبيل قضيته وقضية شعبه وما هذه المقالة الا تحية احترام وتقدير في ذكرى رحيله الذي يعد خسارة للفن والثقافتين العربية والعالمية.




رسالة إلى غسان كنفاني
-------------------------

من فوق التراب الى تحت التراب. والموت واحد وإن اختلف الموقع. والمدفن واحد وإن اتسع ما فوق التراب ليشمل العالم كله حيث انتشر الفلسطينيون وضاق ما تحت التراب فانغلق على جثمان وحيد.
فشل القتلة وإن نجحوا في تغييبك. ونجحوا في تغييب غيرك وإن فشلوا في قتلهم. ولو كان القتلة يعلمون أنهم بقتلك يطلقونك من عالم مجنون ومتخاذل ومستسلم باع شرفه وأرضه وحقه ومبادئه بثمن زهيد أو حتى بدون ثمن، لكانوا ترددوا قبل وضع الأصابع المتفجرة في سيارتك في صباح ذلك السبت المشؤوم قبل عشرين سنة. إن انفجار الفولسفاكن حررك من هذا العالم وأبعدك عن المأساة التي نعيش وأخفى عن عينيك عيوب الحاضر وجرائمه وانهزاماته. فأغمضت عينيك على صورة جميلة من صور النضال والإيمان والثورة والقيم. وفي عشرين سنة خبت هذه الصور، وبهتت، وأخذت مكانها صور قاتمة وتعيسة.
كم توهمت، بعد استشهادك بعشرة أيام، أن وحشية العدو التي نالت منك لم تنل مني تماما، فبقيت أتنفس وأتحرك وأرمش، وإن خف السمع والبصر الى ما يقارب الزوال. ولكني، بعد عشرين سنة من اقتراف هاتين الجريمتين، أغبطك وأغبط مصيرك ولا أغبط مصيري.
ماذا كنت ستسمع يا غسان، وماذا كنت ستشاهد، لو كنت تشاركنا الجلسات هذه الأيام؟
كنت ستسمع أن الصهيونية ليست حركة عنصرية استيطانية معادية، بل هي حركة سياسية تقف في وجه حركة سياسية مقابلة، كلاهما من طينة واحدة: تدافع الأولى عن جماعة (اليهود) وتدافع الأخرى عن حقوق جماعة ثانية (العرب)، تماما مثلما نص وعد بلفور قبل استشهادك بخمس وخمسين سنة: إن وطنا قوميا لليهود يقام في فلسطين بشرط ألا يمس بمصالح المقيمة في ذلك البلد؛ وكما كان مارك سايكس، أحد بطلي الاتفاقية المشؤومة، يزعم أن الصهيونية والقومية العربية صفحتان لورقة واحدة.
وكنت ستسمع أن بلد مثل سائر البلدان، له حقوقه وأمنه وحدوده ووجوده ومصالحه. وما علينا إلا أن نعترف له بذلك حتى يكف عن التعدي علينا. ف أصبحت ولم تعد عدواً. وللجار حقوق. وما الجدار الذي يفصل بيننا إلا جدار وهم وخيال نصبه التعصب والجهل في قرن من الزمان.
وكنت ستسمع أن فلسطين ليست فلسطين؛ أن نصفها اسمه إسرائيل، ونصفها الآخر اسمه الضفة الغربية وقطاع غزة.
وكنت ستسمع أن القضية الفلسطينية هي قضية ما سقط عام 1967 من أرض فلسطين، وأن استعطاء حكم ذاتي يجعلنا أحرارا في شؤون الصحة وجمع القمامة وفتح الدكاكين وتعليق اليافطات ويغنينا عن المطالبة بتحرير محبوبتك عكا والعودة الى محبوبتي طبريا. بل ان قضية فلسطين امّحت وذابت في ما أصبح يسمى .
وكنت ستسمع أن التفاهم بالحسنى، أو الاتفاق بالتراضي، هو شرف ؛ وأن شرف الجلوس مع مندوبي العدو في هذا البلد الأوروبي أو الأميركي أو الآسيوي أو ذاك، في ظل الرعاية الأميركية ، هو النصر بحد ذاته. فقد فاتك أن أميركا لم تعد دولة استعمارية أو إمبريالية وعدوة للشعوب، بل أصبحت صديقا عزيزا حاميا لحقوقنا وجنديا مخلصا لاستعادة حقوقنا. لم يعد هنري كيسنجر وحده، بل أصبح الطاقم السياسي الحاكم في أميركا كله عزيزا على قلوبنا.
لو كنت لا تزال حياً يا غسان لكنت تشاهد أصدقاء يسيرون في جنازة الحق الفلسطيني مزهوين بالانتصارات الوهمية
لو كنت لا تزال حياً يا غسان لكنت تشاهد وتسمع أصدقاء مشتركين لك ولي (وبعضهم أصابته قنابل العدو مثلما أصابتك وأصابتني) يقولون هذا الكلام وأكثر، ويسيرون في جنازة الحق الفلسطيني مزهوين بالانتصارات الوهمية. لقد سقطت الأقواس حول اسم وأصبح الاستمرار في استعمالها غباءً وتحجراً وسماجة لا تليق بنا ونحن نجالس الإسرائيليين ونستعطفهم ونتملقهم ونغازلهم ونمنحهم بركات الشرعية. والصحيح أن الأقنعة سقطت عن وجوههم هم بمجرد إسقاطهم تلك الأقواس.
ألا توافقني، بعد هذا، أن مثواك تحت التراب أرحب وأرحم من منازلنا الفخمة وطائراتنا الخاصة وعروشنا والبسط الحمر تحت أقدامنا؟
لكنه ذنبك أنت يا غسان، أنك أتحت لهم أن يغتالوك. ركبت الفولسفاكن. ولم تكن تركب المرسيدس 500 المصفحة، تحيط بك حراسات مسلحة تفتح لك الطرقات وتغلقها عن غيرك. تماما كما كان الذنب ذنبي حسب رأي أحد كبار قادتنا العباقرة الذي صرخ مستنكراً أن أفتح المظروف المفخخ، الأمر الذي جعل القنبلة تنفجر بين يديّ. قال: ؟ وكأنه أراد أن يقول: . فالموت للمساكين وليس للمسؤولين!
وهكذا تتحول المسألة من جريمة صهيونية قذرة ضد الفكر الفلسطيني الى خطأ نقترفه نحن وندفع ثمنه حياتنا أو بعض حياتنا.
لقد هددوك، وحذرك قبل أيام من الجريمة واستخففت فنالوا منك. وهددوني، وحذرني بعض قبل أيام من الجريمة فسخرت ولم أتعظ منك، ونالوا مني. وهكذا كانت الحال مع الكثيرين غيرنا، رحم الله الموتى وشفى الجرحى والمصابين وغفر للمتخاذلين وهداهم. إن وحش الموت، كما يقول المثل الدنماركي، يلتهم الأدسم بين ضحاياه. ترى، هل كانت لدينا رغبة خفية في التنافس والتدافع أمام الوحش ليختارنا نحن من بين آلاف المقاتلين بالبندقية أو بالقلم؟
لقد أراحك الموت من سؤال سخيف كان المحقق سيطرحه عليك مثلما طرحه عليّ وأنا أستلقي على سريري في المستشفى بين الموت والحياة: ولو كانت لديّ قدرة على الكلام لكنت أجبت: .
يبدو أنهم هم العقلاء والمنطقيون، ونحن كنا المغفلين. المغفل فقط يرث الرضى الذاتي، وراحة الضمير، وشرف النضال. وهم يرثون كل شيء آخر رنان، من لقب الى ذهب.
أنت وأمثالك تعيشون في المخيم وتناضلون في الخندق وتشربون الماء الآسن وتقتاتون الفتات. وأما وجهاء النضال الكلامي والخطاب السياسي المهرجاني ومحترفوه فقد جنوا ثمار ذلك النضال، ألقابا فخمة تحتضن أسماءها، ومباني ضخمة تنطح بأعناقها السحب، ومواسم الترف ومهرجاناته وأعراسه التي قصّرت عنها ليالي الألف ليلة وليلة.
  
أخي العزيز غسان: لقد متّ مرة. ونموت نحن كل يوم ألف مرة.
أكاد أسمعك تسأل: أليس من أخبار غير هذه التعاسات؟
نعم.
فايز وليلى يرفعان اسم فلسطين واسم والدهما عاليا، بكفاءاتهما ونشاطاتهما ونجاحهما. وآني وفية لك في وفائها لقضية زوجها التي أصبحت قضيتها، مثابرة تنجز ما يعجز عنه العشرات. ورفاقك على إيمانهم وسلاحهم وأصالتهم. وجبهتك صامدة بالرغم من الإغراءات التي تستميل الضعاف وتشد الأقوياء. و القائد يزداد مرضه قسوة وتزداد عزيمته قوة. وكتبك ورواياتك وقصصك تجتذب القراء المعجبين طبعة بعد أخرى. ومجلة الهدف تتحدى وتواصل الصدور. والواحات النادرة في صحارينا الواسعة لا تزال خضراء، وينابيعها لم تجف، وإن أعرض الكثيرون عنها ولم يعد ماؤها الزلال يروي لأن عطشهم هو الى نوع آخر من المشروبات.
وبكلام آخر: لم تغب الشمس بالمرة، وإن كانت العتمة تلف حياتنا. فلا بد للشمس أن تشرق ثانية. إن دماء الشهداء، الأموات منهم والأحياء، ستظل تشع نورا يضيء لأجيال قادمة. وحده هذا الأمل يمنعنا من الاستسلام/ الانتحار.
() رئيس تحرير الموسوعة الفلسطينية منذ العام 1982، ورئيس مجلس إدارتها منذ 1988. له حوالى عشرين مؤلفاً في التاريخ والسياسة. أصيب برسالة ملغومة بعد استشهاد غسان كنفاني بعشرة أيام، أثّرت في سمعه وبصره
.قبيل استشهاده
د. أنيس صايغ



غسان كنفاني في مكتبة عمون الفينيق :
--------------------------------------------

1.الأعمال الكاملة

تحميــــــــــل



2.رجال في الشمس



تحميــــــــــــــل





3.أرض البرتقال الحزين


تحميــــــــــل




4.من قتل ليلى الحايك


تحميــــــــــل

5.موت سرير رقم 12

تحميـــــــــل

6.جسر إلى الأبد

تحميـــــــــل

7.برقوق نيسان(القميص المسروق وقصص أخرى)

تحميـــــــل

8.عائد إلى حيفا

تحميـــــــل

9.الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال

تحميــــــــل


استشهد صباح يوم السبت 8/7/1972
بعد أن انفجرت عبوات ناسفة
كانت قد وضعت في سيارته تحت منزله
مما أدي إلي استشهاده
مع إبنة شقيقته لميس حسين نجم (17 سنة).
كانت دائما ولا تزال يد الصهيونية ملطخة بالدماء فقد سهل عليهم قتل الإنسان، غير أن ال كنفاني أبقى خلفه كلماته التي لا زالت إلى اليوم شعلة تنير الظلام
لن تستطيع الصهيونية قتل الحلم في القلوب و لا الحقيقة في العقول.




اعداد :
سلام الباسل / فلسطين

زياد السعودي / الأردن

سلطان الزيادنة / الأردن






 
/
موضوع مغلق

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:50 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط