الشاعرة غادة قويدر في ديوانها الثالث، ماتنفك تغزل الأبجدية ملاءات ضياء شفافة بالأمل القادم، الأمل المشرق من بؤرة الظلام، ومن دكنة الدم القاني، تواشج بتراتيلها الشعرية فسيسفاء الوطن الفكرة، بالوطن الحقيقي، في انتماء لا يضاهيه انتماء، وبعشق يعلّم النائين عن أوطانهم أبجديات العشق، وممازجة التراب للتراب. عتبة الديوان الأولى تكمن في شفرة هذا العنوان ( النص) فليس عنوانا عاديا، بل نصا مفتوحا، مشحونا بأرواح شعرية قادرة على التشكل والخلق، وهي مقدرة أعرفها وألمسها في كثير من إبداعات الشاعرة القديرة على التفرد بمزاوجات غاية في الجدة والشعرية. العنوان ( رقص على حدود السكاكين) شفرة مأخوذة بدراية وعناية من كل نصوص الديوان، ومضمونه الإبداعي الفاخر، يتشكل في فضاءات النصوص كلها، وتطير كل النصوص في فلكه المائر بعنف حول ( سوريا ) الوطن . وبلمحة سريعة على مفردات العنوان ترى الحركة بعينينك ، وتحسها بإحساسك وتلمسها بشعورك، وتسمع حفيف الرقص، وجلبته، وصلصلة السكاكين، كل حواسك تعمل في هذا المشهد المائج المائر بالحركة والاضطراب، يتحرك لاشعورك خشية على أقدام الراقصين فوق شبا السكاكين، يذهلك اتزانهم، تربكك حركاتهم، تعتمل في روحك الدهشة للصورة في مجملها الواقف، وتبلت عن الكلام إذا تبرجت لك الصورة في موران مضمونها الحركي. الرقص، وشحناته الدلالية بين الطرب والحرب، وبين الفرح والارتجاف، وبين البرد والحمى، وكل هذه الثنائيات، ومفردة ( حدود ) التي تأخذك إلى آفاق عدة كالتأطير الفني أو السياسي أو العلمي، حتى تلغي ( السكاكين ) كل تلك الحدود لتبقى رهافة الحد والشبا هي الحاكمة، ولتشدهك السكين بدقة حدها، وضيقه عن الرقص، وألم ذلك الحد المرعب إذا توغل في باطن القدم، تلك السكاكين التي تخبرك بأنك تتحرك على خطر ، فإن احتملت حزوزها في قدميك، فمازال رعب السقوط على شباها يعتمل في أعماقك، ستحتمل الألم في قدميك، وتتقن الرقص ، مفردة ( السكاكين ) قادتنا إلى خطر ذاك الرقص، وألمه، إنها حرب الحرية المائرة في سوريا، حرب الكرامة، حرب شعب رفض الذل والعبودية، وسيرقص على حدود السكاكين لينال حريته. بقدرة الشاعرة رسمت للمحاربين أن الرقص ليس على بسط ، ولا ورد ، ولا خشبة مسرح، بل في ميدان المعركة، فلماذا اختارت الشاعرة السكاكين؟ لماذا لم تختر السيوف؟ أو الرصاص ؟ أو آي آلة خطرة من آلات الحرب ؟ ليس ذلك في تقديري إلا لقوة قريحة الشاعرة ونفاذ بصيرتها، فشعب سوريا الأعزل أجبر على الحرب، ولم يأخذ سلاحه إلا من مطبخه وحقله، من آلات عمله اليومي السلمي، لم يكن يخطط لخوض حرب بهذه الشراسة، ولم يتخيل أن تُواجَه سلميته وسكاكينه بطائرات ( الميج ) ! القراءة للشاعرة غادة قويدر، أكثر من قراءة ، هي كتابة حقيقية لنصوص في مخيال المتلقي، حركة صورية متتابعة باستمرار، لاعتمادها على خلق المزاوجات اللفظية المدهشة ، في أكوان شعرية جديدة ومختلفة ومحلقة، فمن المستحيل أن يُقرأ نصها كما يقرأ أي نص ، بل يجد القارئ لذة القراءة المتأنية وصورها تتوامض في مخياله بما يؤثر على تلك التؤدة فتؤزه لاستكشاف الصورة اللاحقة ، وهكذا يظل القارئ في صراع داخلي بين التأمل والاكتشاف حتى يبلغ نهاية النص. غادة قويدر شاعرة لا تكرر ذاتها في نصوصها، بل كل نص عالم مائر بشخوصه وطقوسه وصوره ولغته، ومن العبث أن أقحم نفسي في قراءة نص لها في هذه المقدمة لأني سأحتاج إلى الكثير من الصفحات التي تحجب القارئ عن بداية الديوان ، لكني سأكتفي بومضات سريعة وبسيطة عن ديوان " رقص على حدود السكاكين " . نلمس في هذا الديوان فرادته من بين أعمال الشاعرة بالحديث عن الوطن ، والتعبير عن حب هذا الكيان الجميل والانتماء إليه إلى درجة القدسية والتعلق غير القابل للانفصال، فكل النصوص تدور حول الوطن وتصفه بشتى الطرق ، ونلمس ذاتية الشاعرة التي تمازج الوطن وطبيعته، وتشارك المحاربين الرقص على حدود السكاكين . تركز الشاعرة على العودة إلى الماضي الأبيض الذي بسط بصماته على سوريا، وتستحضر الشخصيات بزخمها التاريخي دليلا على أصالة الوطن وعراقته وأبعاد عمقه التاريخي في الحضارة الإنسانية والعربية، فليست سوريا وطنا مبتورا عن أمته والحضارة الإنسانية، في استنكار واضح لموقف الأمم من قضية بلادها العادلة. تظهر النزعة المكانية في شعر الشاعرة وتشبثها بالتراب السوري، وخطابها الحجاجي المضمر في أحقيتها كسورية بكل حجر وكل شبر في وطنها الراقص على حدود السكاكين. تلمس في الديوان أمومة سوريا، التي تحبل وتلد وتحضن، وتمنح الدفء والأمن والحياة، والشاعرة تخلع عليها هذه الصفات، لتؤنسنها ، وتذكر المحاربين بالعار الذي سيلحق بهم إن فرطوا في أمهم، وتحيي في أرواحهم أمل أن يلوذوا بالدفء والحنان على صدرها بعد النصر المنتظر، وبكل شجاعة المرأة العربية توجه الشاعرة غادة عبارات الحماسة والتجييش إلى المحاربين، وتصف الآخر بالظلم والظلامية وخيانة الوطن وهدمه . تدهشك المفارقة الجمالية في حشد الشاعرة لكل أوصاف سوريا الجميلة قبل الحرب، وطبيعتها الخلابة، ولاوعي الشاعرة يتقد بذكاء ليذكّر أهلها بجمالها الذي لن تستطيع معاول الهدم ولا صواريخ الخراب تشويهه ، بل سيبقى يتقد في أعماق كل السوريين لا تزحزحه مشاهد الخراب . رقص على حدود السكاكين" ديوانٌ لا تكفيه مقدمة ولا قراءة ولا قراءات لتتبع أنساق الخطاب وسياقاته الشعرية المدهشة، لكنه جهد المقل، وشرف لي أن استطعت كتابة ارتباكي أعلاه .
أحمد عيسى الهلالي ـ الطائف ، السعودية